التنبيه والتحذيرمن تأويل وتعطيل صفات الله في كتب التفسير.
الحمد لله الذي هدانا للإيمان وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..وله الحمد أن جعلنا من أتباع نبيه صلى الله عليه وسلم المهتدين بهديه، ونسأله جل وعلا أن يثبتنا على الحق وأن يجعلنا من العاملين به والداعين إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبعد:
فالواجب على كل مسلم تعظيم الله عز وجل وتعظيم كلامه، وتلقيه بالقبول والرضا والتسليم، نصحًا لله تعالى ولكتابه الكريم.
إلا أن طائفة من أصحاب التأويل من المفسرين حصل منهم تحريف كلام الله تعالى في آيات الصفات.
والسبب الباعث لهم على ذلك زعمهم أنهم ينزهون الله تعالى عن مشابهة الخلق، وقد فروا من التشبيه، ووقعوا في التعطيل والتحريف، وكل ذلك شر، وكان الأجدر بهم أن يثبِتوا ما أثبته الله جل وعلا لنفسه، فماعلِموا معناه قالوه، وما جهلوا وكَلوا علمه إلى الله تبارك وتعالى، وحسبهم أن يقولوا: آمنا به كلٌ من عند ربنا.
ففي هذا المقال سأقتصر على ذكر ما وقع من تأويل بعض صفات الله جل وعلا في التفسير، وأنقل تلك الأقوال من الكتب التالية:
-الكشاف للزمخشري.
- الوجيز للواحدي.
- المحرر الوجيز تفسير ابن عطية الأندلسي.
-الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
- تفسير الجلالين.
واكتفيت بهذه الكتب اختصارًا وتنبيهًا لما في سواها مما هو مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة.
وأختم هذا الموضوع بإيراد نبذة مختصرة عن مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله عز وجل.
-•-
فمن هذه الصفات التي تعرضت للتأويل والتحريف:
قالوا الرحمن :"هو مجاز عن إنعامه على عباده". (١) وزعموا أن: الرحمة هي إرادة الخير.(٢ )
قال الزمخشري: " المراد بالغضب هنا: "إرادة العقوبة"(٣) و"إرادة الانتقام".(٤)
وقال ابن عطية: "وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محنًا وعقوبات وذِلة ونحو ذلك".(٥)
فتفسير صفة الغضب بإرادة العقوبة أو الانتقام من التأويل الباطل، وكذلك تفسيرهم الرحمة بإرادة الخير، فعادت صفة الرحمة وصفة الغضب بهذه التأويل إلى صفة الإرادة فحسب، وبهذا نفوا صفتي الرحمة والغضب عن الله عز وجل، وحسبك بهذا دليلًا على بطلان هذا القول ، وضلال هذا المذهب.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "الغضب صفة من صفات الله عز وجل تدل على كمال سلطانه وقدرته، وتستلزم عقوبة المغضوب عليهم، ولا يصح تفسير الغضب بالانتقام ولا بإرادة الانتقام، لأن الغضب شيء ينشأ عنه إرادة الانتقام، ثم الانتقام منهم، ولهذا قال تعالى: {فلما آسفونا} أي: أغضبونا{انتقمنا منهم} " . (٦ )
_____
١-الكشاف: ٢٧/١
٢-الوجيز للواحدي: ٨٨/١
٣- الجامع لأحكام القرآن: ١٥٠/١
٤- الكشاف: ٣٤/١
٥- المحرر الوجيز: ٢٧٥/١
٦- أحكام من القرآن الكريم: ٣٦/١
-•-
حرّفوا صفة الإتيان لله فقالوا: "إتيان أمره وبأسه". (١)
وقال بعضهم :" يأتيهم أمر الله وحكمه"(٢)
وقالوا: "يأتيهم عذاب الله".(٣)
وعن قول الله عز وجل:{ هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَوۡ یَأۡتِیَ رَبُّكَ أَوۡ یَأۡتِیَ بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَ} {سورة الأنعام: ١٥٨}
قالوا: "يأتي أمر ربك، أي: عقوبة ربك، وعذاب ربك"(٤)
قال ابن عطية: "وهذا الكلام على كل تأويل: فإنما هو بحذف مضاف، تقديره: أمر ربك، أو بطش ربك، أو حساب ربك، وإلا فالإتيان المفهوم في اللغة مستحيل في حق الله تعالى".(٥)
وكذلك صنعوا مع صفة المجيء في قوله تعالى: {وجاء ربك والملك}.{سورة الفجر:٢٢}.
قال الزمخشري: "هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه".(٦)
سبحان الله وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} { ومن أصدق من الله قيلًا} وهؤلاء يقولون عن قول الله سبحانه تخييل وتمثيل!
فقولهم هذا باطل، وتحريف ظاهر لكلام الله عز وجل.
والمذهب الحق في ذلك:
هو قول أهل السنة والجماعة: أن الله عز وجل يأتي لفصل القضاء بين خلقه يوم القيامة، كما أخبر عن نفسه في كتابه، فهو عز وجل الفعال لما يريد.
والواجب الإيمان بما أخبر به تعالى في كتابه من صفاته وأفعاله على الحقيقة، من الإتيان والمجيء، وكذلك الاستواء والعلو، وسائر صفاته تعالى.
يؤمن بذلك كله دون تأويل أو تكييف أو تشبيه أو تمثيل أو تعطيل.
________
١- الكشاف: ٢٣٧/١
٢- تفسير الوجيز للواحدي: ٨٩/١، وتفسير القرطبي : ٢٥/٣، وتفسير الجلالين: ٤٨/١
٣- الوجيز للواحدي:١٦٠/٢
٤-تفسير القرطبي: ١٤٤/٧
٥- المحرر: ١٧٨/٤
٦- الكشاف: ٥٨٢/٤
-•-
قال القرطبي:"العلي" يراد به علو القدر والمنزلة، لا علو المكان، لأن الله منزّه عن التحيّز"(١).
وقال نحو هذه العبارة عن صفة الفوقية لله تعالى عند قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} قال: " ومعنى فوق عباده:فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم ، أي : هم تحت تسخيره، لا فوقية مكان ، كما تقول : السلطان فوق رعيته أي : بالمنزلة والرفعة ".( ٢)
وقال الواحدي:"العلي بالقدرة ونفوذ السلطان عن الأشباه والأمثال". (٣) وقال الزمخشري:"العلي الشأن"(٤). وقال جلال الدين المحلي: "العلي فوق خلقه بالقهر".(٥).
•وقالوا عن قوله تعالى: {وسع كرسيه}.
أي: " أحاط علمه، وقيل ملكه".(٦)
قال الزمخشري: " تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة ولا قعود، ولا قاعد".(٧)
نعوذ بالله من أسباب سخطه، ففي هذه العبارة نفي للكرسي ، وتكذيب صريح للقرآن، وسوء أدبٍ مع الله عز وجل.
وقال ابن عطية: " {العلي} يراد به علو القدرة والمنزلة، لا علو المكان، لأن الله منزّه عن التحّيّز".(٨)
ويقصدون بالتحيّز كون الله في جهة، لأنهم يقولون: لا هو فوق العرش ولا في جهة العلو ، ولا في مكان..
وهذه الأقوال تأويل غير سائغ، بل بعيد عن الحق ومخالف لما عليه أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة، الذين يؤمنون بأن الله متصف بعلو الذات ، وعلو القدر والشأن، وعلو القهر، فهو عز وجل : عليٌّ بذاته، مستوٍ على عرشه الكريم فوق سمواته، بائنٌ من خلقه.
قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
وله العلو من الوجوه جميعها
ذاتًا وقهرًا مع علو الشان
لكن نفاة علوه سلبوه
إكمال العلو فصار ذا نقصان
حاشاه من إفك النفاة وسلبهم
فله الكمال المطلق الرباني
وعلوه فوق الخليقة كلها
فُطِرت عليه الخلق والثقلان
لا يستطيع معطّلٌ تبديلها
أبدًا وذلك سنة الرحمن.
______
١- الجامع لأحكام القرآن: ٢٧٨/٣
٢- الجامع لأحكام القرآن: ٣٩٩/٦
٣- الوجيز: ١٨٣/١
٤-الكشاف: ٢٨٢/١
٥- تفسير الجلالين: ٦٢/١
٦- نفس المصدر
٧- الكشاف: ٢٨٢/١
٨- المحرر: ١٦٤/٢
-•-
قال الواحدي: "أقبل على خلقه، وقصد إلى ذلك.. واستولى ".(١)
وعن قوله جل وعلا: { الرحمن على العرش استوى} قال ابن عطية: "قالت فرقة: هو بمعنى استولى، وقال أبو المعالي وغيره من المتكلمين: هو بمعنى استواء الغلبة والقهر".(٢)
فجوابًا لأصحاب هذا القول، أن يقال لهم: مَن ذا الذي كان مغالبًا لله سبحانه على عرشه، ثم غلبه الله جل وعلا وقهره ثم استولى على العرش؟!
وقال الزمخشري عن هذه الآية: " لما كان الاستواء على العرش وهو سرير المُلك مما يردف المُلك، جعلوه كناية عن المُلك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملَك، وإن لم يقعد على السرير ألبتة".(٣)
فقد تمحّل قائل ذلك وتشبث بأهون من بيت العنكبوت مما ادعى من علم البيان. ومؤدّى كلامه إنكار عرش الرحمن جل وعلا.
وفي هذا القول تعطيل لصفات الله تعالى، وتضليل للناس عن الحق نصرة للمذهب الباطل .
وما كان يضير هؤلاء لو قالوا : صدق الله في خبره عن نفسه، فهو أصدق القائلين، وهو أعلم سبحانه بما يستحق.
وصفاته كلها كمال ، وأخباره كلها حق، فقد أخبر جل وعلا عن نفسه في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش.
فيجب الإيمان بأن الله تعالى مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله.
ومعنى الاستواء عند أهل السنة والجماعة وعلماء السلف:
علا وارتفع، واستقر. قال مجاهد رحمه الله:"{استوى} علا على العرش".(٤)
وقال محمد بن جرير الطبري رحمه الله: " {ثم استوى على العرش} أي: علا، وارتفع". (٥)
قال الإمام مالك رحمه الله : " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".(٦).
وقال البغوي رحمه الله: قوله تعالى :{ ثم استوى على العرش } . قال الكلبي ومقاتل : استقر . وقال أبو عبيدة : صعد ، وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء،
فأما أهل السنة فيقولون :
الاستواء على العرش صفة الله تعالى بلا كيف ، يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل .
وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟
قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج . وروي عن سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات ، أمروها كما جاءت بلا كيف".(٧)
_____
١- الوجيز: ٣٧٩/١.
٢-المحرر: ٦٩١/٢
٣-الكشاف: ٤٨/٣
٤- صحيح البخاري: ٣٨٧/٤
٥- جامع البيان :١٣٨/١٧
٦-اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة: ٣٨٩/٣، والبيهقي في الأسماء والصفات: ٣٠٦/٢
٧-معالم التنزيل: ٤٨١/٢
-•-
قال الواحدي في: "معناه الوصف بالمبالغة في الجود والإنعام، وقيل: نِعمه مبسوطة، ودلت التثنية على الكثرة".(١)
ونحا نحوه الزمخشري في تفسير الآية(٢)
وقال القرطبي:" قوله تعالى : {بل يداه مبسوطتان} أي : بل نعمته مبسوطة ، فاليد بمعنى النعمة . ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة ، أي : قدرته شاملة ، فإن شاء وسّع، وإن شاء قتّر".(٣) .
وعلّل ذلك بما في قول الله تعالى: "{ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} قال: فلا يجوز أن يحمل على الجارحة، لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض ".(٤)
وعن معنى الآية قال جلال الدين المحلي:"مبالغة في الوصف بالجود، وثنّى اليد لإفادة الكثرة".(٥)
وقال ابن عطية: "{ يد الله مغلولة} عنوا أنّ قوته تعالى نقصت".(٦)
فتأويل صفة اليد إلى القوة، أو القدرة أو النعمة كل ذلك تحريف لكلام الله عز وجل وتعطيل، وإنكار لهذه الصفة، وصرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز الذي يمكن نفيه، بخلاف الحقيقة التي لا تقبل النفي. قال الله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِۦۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ }.
وقوله سبحانه: { قَالَ یَـٰۤإِبۡلِیسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِیَدَیَّ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين.. ".(٧)
وقال صلى الله عليه وسلم: "يمين الله ملأى، سحاءُ الليل والنهار، وفي يده الأخرى الميزان.. ".(٨)
وعن قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم}.[في سورة الفتح: ١٠]
قال الزمخشري: "يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله، والله تعالى منزّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام".(٩)
وهذا فيه تعريض بمن يثبت صفات الله تعالى على الحقيقة، وأنّ من قال ذلك فهو مجسّم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وهو يزعم أنه ينزّه الله تعالى، وقد وقع في تعطيل صفات الله، وهذا نفي لصفة اليد لله سبحانه المنزّه عن كل سوء، وعن مشابهة المخلوقين، وعن تأويل وتحريف المبطلين..
فلله عز وجل يدٌ- بل يدان- تليق به تعالى، لا تشبه أيدي الخلق،كما أنّ له ذاتًا لا تشبه الذوات.
فهو جل وعلا موصوف بما وصف به نفسه من صفات كماله وجلاله، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم الخلق بربه، وأتقاهم له.
___
١-الوجيز: ٣٢٧/١
٢-الكشاف:٦١١،٦١٠/١
٣- الجامع لأحكام القرآن:٢٤٠/٦
٤-نفس المصدر: ٢٣٨/٦
٥--تفسير الجلالين: ١٥٤/١
٦- المحرر: ٥٦٨/٣
٧-صحيح مسلم: ١٤٥٨/٣
٨-صحيح البخاري:٧٤١١.
٩- الكشاف: ٢١٠/٤
-•-
قال الواحدي: "قبضته: أي: ملكه من غير منازع. والسموات مطويات بيمينه: أي: بقوته. وقيل: بقسَمه، لأنه حلف أنه يطويها".(١)
وقال الزمخشري:"وقيل:قبضته: ملكه بلا مدافع، ولا منازع، وبيمينه: بقدرته". (٢)
وقال عبد الحق بن عطية: "اليمين هنا والقبضة وكل ماورد، عبارة عن القدرة والقوة، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل".(٣ )
وقال القرطبي: "عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته".(٤)
وقال السيوطي:{ قبضته} أي: "مقبوضة له، أي: في ملكه وتصرفه {بيمينه} بقدرته". (٥)
فمؤدى هذه الأقوال واحد، وهو التأويل الباطل والجرأة على تحريف كلام الله وإنكار صفاته جل وعلا..
وماذا عليهم لو قالوا: عما أخبر الله به حق، وما وصف به نفسه صدق.. على ما أراد جل وعلا.
لا نقول فيه بتأويل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل..
فالله سبحانه يخبر عن أفعاله وصفاته في أعظم كتبه بيانًا فيقول:
{ وَإِنَّهُۥ لَتَنزِیلُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ • نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ • عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ ة• بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ }
ويقول تعالى:{ قُرۡءَانًا عَرَبِیًّا غَیۡرَ ذِی عِوَجࣲ لَّعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ }
أنزله الله بأشرف اللغات وأفصحها على أفصح الناس وأصدقهم وأعلمهم وأتقاهم لله صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء القوم يدفعون الحق بباطلهم، ويحرّفون كلام الله بتفاهات العقول ، فلا والله ما قدروا الله حق قدره.. وصدق الله إذ يقول: { وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِ.. }.
فانظر ما سطرّه العلماء من أهل السنة والجماعة:
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: " وقوله{ والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة}يقول تعالى ذكره: والأرض كلها قبضته في يوم القيامة{والسموات}كلها مطويات بيمينه". ( ٦).
ثم أورد الأحاديث الدالة على ذلك ، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المِنبَرِ: (يأخُذُ اللهُ سمَواتِه وأَرَضيه بيدِه ثمَّ يقولُ: أنا اللهُ ـ ويقبِضُ أصابِعَه ويبسُطُها ـ أنا الرَّحمنُ أنا الملِكُ".(٧)
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ، ويَطْوِي السَّمَواتِ بيَمِينِهِ، ثُمَّ يقولُ: أنا المَلِكُ، أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ؟". (٨)
ثم قال رحمه الله بعد ذلك: " وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة { والأرض جميعًا قبضته} يقول في قدرته..
ثم قال الإمام ابن جرير الطبري: "والأخبار التي ذكرناها عن رسول الله وعن أصحابه وغيرهم، تشهد على بطول هذا القول".(٩)
أي: فساد وبطلان قول أهل اللغة الذي ذكره آنفًا في تأويل صفات الله تبارك وتعالى.
وقال ابن كثير رحمه: "وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف: وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تحريف..".(١٠)
ثم ساق الأحاديث في ذلك ومنها حديثا أبي هريرة وابن عمر المتقدمان.
—
١-الوجيز:٩٣٨/٢
٢-الكشاف: ٣٦/٤
٣-المحرر: ٤٢٣/٨
٤-الجامع لأحكام القرآن: ٢٧٨/١٥
٥-الجلالين: ٢١٧/٢
٦- جامع البيان: ٢٥/٢٤
٧- تفسير جامع البيان للطبري: ٢٦/٢٤.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه: ٧٣٢٤، والبخاري بنحوه: ٧٤١٢، ومسلم مختصراً:٢٧٨٨
٨-أخرجه البخاري: ٤٨١٣، ومسلم: ٢٧٨٧.
٩-جامع البيان :٢٨/٢٤
١٠- تفسير القرآن العظيم: ١٤٨/١٢
-•-
قال ابن عطية :"الكلمات:هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات".(١)
ثم قال: "وكلام الله لموسى دون
تكييف ولا تحديد، ولا تجويز حدوث حروف ولا أصوات، والذي عليه الراسخون في العلم: أن الكلام: هو المعنى القائم في النفس، ويخلق الله لموسى أو جبريل إدراكًا من جهة السمع يتحصل به الكلام".(٢)
وقال الواحدي: "كلمات ربي: حِكمه وعجائبه"(٣)
وقال الزمخشري:عن قول الله تعالى: {وكلّم الله موسى تكليمًا } "ومن بدع التفاسير أنه من الكَلْم، وأن معناه: وجرّح الله موسى بأظفار المحن، ومخالب الفتن".(٤)
وقال القرطبي:"قيل:عَنى بالكلمات: الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى". (٥)
وهذا القول في تفسير كلمات الله وكلامه، هو قول الأشاعرة الذين يفسرون الكلام بأنه معنى يقوم بالنفس.
ويفسرونه تارة بالمعلومات.
فانظر كيف يُحرف كلام الله، أفصح الكلام وأبينه وأصدقه.
وتُلتمس له التأويلات الباطلة. والحق أن الكلام صفة لله تعالى كما أن العلم صفة له أخرى.
ومذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح:
الإيمان بأن كلام الله جل وعز صفة قائمة بذاتها، والله يتكلم بما شاء من كلماته الكونية والشرعية، ويُسمع من شاء من ملائكته ورسله، ويكلّم الخلق يوم القيامة.
قال ابن الجوزي رحمه الله :"إنما لم تنفد كلمات الله لأن كلامه صفة من صفات ذاته، ولا يتطرق على صفاته النفاد". (٦)
وقال ابن كثير :"لو كان البحر مدادًا للقلم الذي يكتب كلمات ربي وحكمه وآياته الدالة عليه لنفد البحر قبل أن يفرغ من كتابة ذلك".(٧)
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقد دلّ القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته، كما دلّ على أن كلامه صفة قائمة بذاته، وهي صفة ذاتٍ، وفعل ".(٥)
—
١- المحرر: ٤٦٢/٦
٢- المحرر :٣٧٠/٣
٣-الوجيز: ٦٧٥/٢
٤- الكشاف: ٥٥١/١
٥- الجامع لأحكام القرآن: ٦٩/١١
٦-زاد المسير:٥ /١٤٩
٧-تفسير القرآن العظيم: ٩ /٢٠٤
٨- مختصر الصواعق المرسلة، ج ۲، ص ٢٩٦
-•-
وقوله تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا} سورة هود الآية: ٣٧
قال الواحدي: "ولتصنع على عيني" على محبتي ومرادي".(١)
قال الزمخشري: "لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك،كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به".(٢)
وقال ابن عطية: ""بأعيننا" يمكن فيما يتأول أن يريد به: بمرأي منّا وتحت إدراك، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ، وقوله: {ولتصنع على عيني} وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات، وهو منزّه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره، ويحتمل قوله "بأعيننا" أي: بملائكتنا الذين جعلناهم عيونًا على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا للتكثير".(٣)
ونقل القرطبي كلام ابن عطية ، ثم زاد عليه، فقال: "وقيل "بأعيننا"أي: بعلمنا، وقيل: بمعونتنا لك على صنعها". (٤)
فاتفقت أقوال المبتدعة على تأويل كلام الله ، في صفة العين له جل وعلا، على غير ما وصف سبحانه به نفسه، في كتابه {الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد} .
فمعنى الآية،{ ولتصنع على عيني} على مرأى مني ورعاية،وكذلك {ويصنع الفلك بأعيننا} : أي: بمرأى منا.
وتتضمن الآيتان: إثبات صفة العين الله تعالى.
—-
١- الوجيز: ٦٩٥/٢
٢- الكشاف: ٥٨/٣
٣-المحرر: ٣٠٠/٥
٤- الجامع لأحكام القرآن: ٣٠/٩
-•-
قال الزمخشري: "{وجه ربك}: ذاته، والوجه يعبّر به عن الجملة والذات"(١)
وقال ابن عطية: " والوجه عبارة عن الذات، لأن الجارحة منفية في حق الله تعالى".(٢)
وقال القرطبي: "قال أبو المعالي: وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود البارئ تعالى".
ثم قال مؤكدًا ذلك و مقررًا له: "والصحيح أن يقال: وجهه وجوده وذاته".(٣)
وكذلك قال السيوطي: "{ويبقى وجه ربك} ذاته".(٤)
فهذه التأويلات تعسّف وحَيْدة عن الحق.
فأي حجة لمن يحرّف كلام الله عز وجل فيما وصف به نفسه سبحانه بأن له وجهًا كريًما موصوفّ بالجلال والإكرام..
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: " ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام، وذو الجلال والإكرام من نعت الوجه فلذلك رفع (ذو) ".(٥)
وقال ابن كثير: "وهذه الآية كقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه} ، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه { ذو الجلال والإكرام } أي : هو أهلٌ أن يجلَّ فلا يعصى ، وأن يطاع فلا يخالف ، كقوله:{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه }. (٦)
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله : فأخبر تعالى أن له وجهاً لا يفنى، ولا يلحقه الهلاك.
ثم قال: فمن سألنا فقال: أتقولون إن لله سبحانه وجهًا؟
قيل له: نقول ذلك خلافاً لما قاله المبتدعون، وقد دل على ذلك قوله عز وجل: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }.( ٧)
فقد وصف الله تعالى نفسه بأكمل الصفات وأعلاها.. في القرآن الذي أقسم تعالى به ووصفه بأنه مبين وحكيم فقال تعالى: {حم والكتاب المبين} وقال عز وجل:{الۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡحَكِیمِ } و قال سبحانه: {ذلك الكتاب لاريب فيه، هدى للمتقين}
ثم يتجرأ متقوّل على ما في هذا القرآن الحكيم المبين، فيحرّف ألفاظه وكلماته، ويتأول آياته على خير هدى، جاعلًا كتاب الله ورآه ظهريًا، ومقتديًا بالمتفلسفة الضُلّال، ويتخذ كلامهم ميزانًا وحكمًا يصرّف إليه كلام الله عز وجل، متعللاً بالمجاز تارة، و بتقديم العقل تارة ، والله تعالى يقول:{ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُقَدِّمُوا۟ بَیۡنَ یَدَیِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ }.
ويقولون لم يرد الله بقوله { ويبقى وجه ربك}، أنّ له وجهًا - سبحانه- وإنما أراد ذاته، فحسب، ولا وجه له عز وجل، ولا يد له، ولا عين، ولا يتكلم، ولا يأتي يوم القيامة ..إلى آخر تخرّصاتهم.
فمقالتهم في إنكار صفات الله تعالى أنّ في ذلك تشبيهًا لله تعالى بخلقه، فيقال لهم:
كما أنّ لله تبارك وتعالى ذاتًا لا تشبه ذوات الخلق، فكذلك صفاته جل وعز لا تشبه صفات الخلق..
وهؤلاء يحرّفون كلامه سبحانه، ويعطّلون صفاته جل وعلا، وهو القائل{ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُوا۟ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ لَفِی شِقَاقِۭ بَعِیدࣲ }.
فأما حجتهم بتقديم العقل على النقل، فتلك حجة داحضة..
وبيان ذلك أن يقال لهم: أي عقل تُحكِّمون، وتقدِمون؟
عقلُ مَن؟
وقبل ذلك، مَن أكمل الناس عقلاً؟
أليس نبي الله صلى الله عليه وسلم؟!
ومن أكمل الناس بعده عقولًا ؟
أليس صحابته الذين اختارهم الله لحمل الرسالة وتبليغها للناس من بعده؟!
فقولوا : لا، نحن أوفر عقولاً منهم
وأهدى سبيلاً.
وإن قلتم : بل الصحابة أكمل الناس عقولًا.
فيقال لكم:
هل قالوا مقالتكم هذه بتقديم العقل على النقل؟
أمّ هل قرأتم، أو بلغَكم عن أحدٍ منهم أن قال مرة: هذه الآية يجب تأويلها، أو ظاهرها غير مراد؟!
أو أنّ العقل لا يقرُّ هذه الصفة لله تعالى؟
أو يستحيل وصف الله بها! لذا يجب تنزيهه عنها؟!
ولو قيل لكم: مادليلكم على أنّ الله ما أراد بكلامه ظاهره؟!
وأنه يجب عرضه على عقول البشر؟ { مَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ • أَمۡ لَكُمۡ كِتَـٰبࣱ فِیهِ تَدۡرُسُونَ • إِنَّ لَكُمۡ فِیهِ لَمَا تَخَیَّرُونَ }.
—--
١- الكشاف: ٣٠٧
٢-المحرر :٣٢١/٩
٣- الجامع لأحكام. القرآن: ١٦٥/١٧
٤-تفسير الجلالين: ٣٠٥/٢
٥-جامع البيان: ١٣٤/٢٧
٦- تفسير القرآن العظيم: ٣٢٠/١٣
٧-الإبانة عن أصول الديانة، ص: ٩٥، ٩٦ .
-•-
ومنها: صفة المحبة لله واسمه تعالى الودود.
{ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ }
[سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٥٤]
قال الزمخشري: "محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم". (١)
وعن اسم الله تعالى الودود في سورة البروج في قوله تعالى: { وهو الغفور الودود} قال:"الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود من إعطائهم ما أرادوا".(٢)
وقال ابن عطية: " الغفور الودود: صفتا فعل، الأولى ستر على عباده، والثانية : لطف بهم".(٣)
وقال جلال الدين المحلي: "إن الله يحب المقسطين: أي: يثيبهم ".(٤)
فأصحاب التأويل حرّفوا صفة الحب لله، و اسمه الودود، عن المعنى الأصلي الظاهر إلى ما يوافق مذهبهم في صرف صفات الله تعالى من الحقيقة إلى المجاز.
وقد أخبر الله عن حبه لطوائف من عباده في مواضع عدة من كتابه ، منها قوله سبحانه:{إنّ الله يحب المتوكلين} وقوله: {والله يحب الصابرين} وقوله: {إن الله يحب الذين في يقاتلون في سبيله صفاً..}.
وجاءت صفة المحبة لله أيضاً في السنة الصحيحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه " ( ٥)
ومعنى اسم الله تعالى الودود عند أهل السنة والجماعة:
قال البخاري: "قال ابن عباس : الودود: الحبيب".(٦)
وقال البغوي رحمه الله: "الودود: المحب لهم". وقيل المتودد إلى أوليائه بالمغفرة".(٧)
وقال ابن كثير رحمه الله: " قال ابن عباس وغيره الودود: الحبيب".(٨)
وقال ابن القيم: "الودود، المتودد إلى عباده بنعمه،الذي يود من أناب إليه وأقبل عليه، وهو الودود أيضاً أي: المحبوب.
قال البخاري: في صحيحه: الودود: الحبيب.
والتحقيق أنّ اللفظ يدل على الأمرين، على كونه وادًا لأوليائه ومودودًا لهم، فأحدهما بالوضع، والآخر باللزوم. فهو الحبيب المُحب لأوليائه، يحبهم ويحبونه".(٩)
—
١ -الكشاف٦٠٣،٦٠٢/١
٢- الكشاف: ٥٦٥/٤
٣- المحرر الوجيز: ٢٠٤/١٠
٤-تفسير الجلالين: ١٥٠/١
٥-صحيح البخاري: ٦٥٠٢
٦- صحيح البخاري: ٣٢٢/٣
٧- تفسير معالم التنزيل: ٥٥٦/٥
٨- تفسير القرآن العظيم: ٣١٣/١٤
٩-التبيان في أقسام القرآن: ٨٥
-•-
وفي الختام سأورد ما وعدت به من نقل عبارات بعض أئمة أهل السنة والجماعة ومذهبهم في باب صفات الله تبارك وتعالى:
* قال الشافعي رحمه الله وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به فقال: " لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، لا يَسعُ أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القولُ بها فيما روى عنه العدول". (١).
* وقال ابن قتيبة رحمه الله : "نحن لا ننتهي في صفاته جل جلاله إلا إلى حيث انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا ندفع ما صح عنه، لأنه لم يقم في أوهامنا، ولا يستقيم على نظرنا، بل نؤمن بذلك من غير أن نقول فيه بكيفية أو حدٍ، أو نقيس على ما جاء ما لم يأت، ونرجو أن يكون في ذلك من القول والعقد سبيل النجاة، والتخلص من الأهواء كلها غداً إن شاء الله تعالى".(٢)
*وقال أبو العباس بن سريج رحمه الله: "حرام على العقول أن تمثّل الله سبحانه وتعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الأفكار أن تحيط، وعلى الألباب أن تصف ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله الا الله ، وقد صح واتضح عند جميع أهل الديانة والسنة والجماعة من السلف الماضين والصحابة والتابعين، من الأئمة المهتدين الراشدين، في زماننا:
أن جميع الآي الواردة عن الله في ذاته وصفاته والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى الله علبه وسلم في الله وفي صفاته التي صححها أهل النقل، وقبلها النقاد الأثبَاتُ يجب على المرء المسلم المؤمن الموقن الإيمان بكل واحدة منها كما ورد، وتسليم أمره إلى الله سبحانه وتعالى كما أمر، وذلك مثل قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغمَامِ وَالْمَلَائكةُ } وقوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَا صَفَا }. وقوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ استوى }. وقوله تعالى : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيِّمَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّتُ بِيَمِينِهِ } ونظائرها مما نطق بها القرآن، كالفوقية، والنفس، واليدين والسمع والبصر والكلام والعين والنظر، والإرادة والرضى، والغضب ، والمحبة والكراهة والمعية والقرب والبعد، والسخط، والاستحياء. أو غير ذلك من صفاته المتعلقة به المذكورة في كتابه المنزل على نبيه، وجميع ما لفظ به المصطفى من صفاته كغرس جنة الفردوس بيده، وشجرة طوبى بيده، وخط التوراة بيده، والضحك والتعجب، ووضعه القدم على النار، فتقول: قط قط، وذكر الأصابع، والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وفرحه بتوبة العبد. واحتجابه بالنور، وبرداء الكبرياء، وأنه ليس بأعور ، وأنه يعرض عما يكره ولا ينظر إليه، وأن كلتا يديه يمين. وحديث خلق آدم على صورته وقوله لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وإثبات الكلام بالحرف والصوت واللغات وبالكلمات وبالسور، وكلامه تعالى لجبريل ، والملائكة وغير هذا مما صح عنه من الأخبار المتشابهة الواردة في صفات الله سبحانه، ما بلغنا منها وما لم يبلغنا مما صح عنه اعتقادنا فيه وفي الآيات المتشابهة في القرآن أن نقبلها ولا نردها، ولا نتأول بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها، ولا ننقص منها، ولا نفسرها، ولا نكيّفها، ولا نترجم عن صفاته بغير العربية، ولا نشير إليها بخواطر القلوب ولا بحركات الجوارح، بل نطلق ما أطلقه الله عز وجل، ونفسر ما فسره النبي ، والصحابة والتابعون والأئمة المرضيين من السلف، المعروفين بالدين والأمانة، ونجمع على ما أجمعوا عليه، ونتمسك بما تمسكوا به، ونسلّم الخبر الظاهر، والآية الظاهرة تنزيلها.
لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية، بل نقبلها بلا تأويل ونؤمن بها بلا ،تمثيل، ونقول الإيمان بها واجب، والقول بها سنة، وابتغاء تأويلها بدعة" (٣).
*و قال الإمام الترمذي رحمه الله : " وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم.
وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده ، وقالوا إن معنى اليد هنا القوة.
وقال إسحاق بن إبراهيم- ابن راهوية-:
"إنما يكون التشبيه إذا قال: يدٌ كيدٍ، أو مثل يد، أو سمْعٌ كسمعٍ أو مثل سمع، وأمّا إن قال كما قال الله تعالى : يدٌ وسمْعٌ وبَصرٌ، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيهاً. وهو كما قال الله في كتابه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }".(٤)
…
اللهم اهدنا جميعًا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، ووفقنا اللهم للصواب في القول العمل، والحمد لله رب العالمين..
محمد بن علي بن محمد الشيخي :
١٤٤٥/٤/١٦
________
١- اجتماع الجيوش لابن القيم، ص ١٦٥.
٢- تأويل مختلف الحديث، ص ۲۰۸
٣- مختصراً من اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، ص ٢٥٢ إلى ص ٢٥٩.
القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي: فقيه الشافعية في عصره مولده ووفاته ببغداد :٢٤٩-٣٠٦هجرية.
٤- جامع سنن الترمذي: ج ۳، ص:٥١