أعوذ بالله من الشيطان الرجيم{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
ويقول سبحانه:{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره:" ذكر تعالى الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً، ليذّكر الولد بإحسانها المتقدم إليه. كما في قوله:{ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ".
فاذكر أيها المقصر في بر أمه ما كابدته أمك من الآلام، تسعة أشهر حملتك وهناً على وهن. فكم لاقت من المشاق والمتاعب وكم سهرت من الليالي, إن قامت عنّاها القيام، وإن أرادت النوم لم تهنأ عيناها بالمنام. فحملتك كُرها ووضعتك كرها. وكادت روحها تخرج قبل خروجك! وكم من أم لم تلد إلا بشق بطنها. وكم من أم ماتت في نفاسها. ولما رأتك ووقعت عينها عليك, واكتحلت لأول مرة بالنظر إليك؛ ذهب عنها كل ما وجدت من الآلام وأطربها صوت بكاءك ساعة مولدك حتى كان لأذنها أطرب الأصوات . ثم سهرت على رضاعتك الليالي الطوال. وسهرت ليلها وعينها بك مسرورة. تغذوك من ثديها لبناً لا يحتاج إلى تعقيم أو تسخين أو تبريد. وإنما هو أنفع شيء لجسمك. وألذ طعام وأهناه. لا يزعجها إلا جوعك. وأسوأ لياليها ليلة قلَّ حليبها عنك. فتهجر لذيذ منامها وتحضنك بين يديها. وتضمك إلى صدرها عند الرضاع، فتغذوك مع اللبن حباً وعطفاً وحناناً؛ فكان ثديها لك سقاءً، وحجرها لك حِواءً فعشت بين أحشائها وفي حجرها ثلاثون شهراً.
فهل تذكرت ما كانت تزيله عنك من الأذى بكفيها، ولم تطب نفسها حتى نظّفت أقذارك بيديها. فلم تتأفف يوماً من أقذارك. وأصبحت اليوم تجفوها وتعصيها.
ألم تعلم أنك كنت لها أجمل أمانيها. فكم كانت ترجو أن تراك شاباً يافعاً, وكم تمنت أن تراك رجلاً تحيطها ببرك ذاهباً وراجعاً. أفنسيت ذلك كله اليوم وجعلت العقوق منك عوضاً عن الإحسان؟! ويلٌ لك ثم ويلٌ لك يا منكر الجميل، فستبوء والله بالحرمان والخسران. وتذكر أن أسرع ما تجُازى به: عقوق من كنت ترجوه من أولادك. فكما تدين تدان. ثم أعلم أن الجنة على العاق حرام. ومأواه جهنم دار الخزي والهوان.
فهذه بعض الأخبار عن البر بالأمهات, فيها لأهل البر تذكير وأسوة حسنة .
ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت:" رجلان من أصحاب النبيrكانا أبرّ هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان وحارثة بن النعمان. فأما عثمان فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت. وأما حارثة فإنه كان يفلّي رأس أمه، ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلاماً قط تأمره به. حتى يسأل من عندها بعد أن تخرج: ما قالت أمي؟! ".
ـ وعنها رضي الله عنها قال: قال النبي r:" دخلت الجنة فسمعت بها قراءة القرآن. فقلت من هذا؟ فقيل حارثة بن النعمان. قال: كذلكم البر، كذلكم البر ".
ـ ومن برّ أسامة بن زيد t بأمه: أنه عمد إلى نخلة فقطعها ليطعم أمه جمّارها, وهو قلب النخلة, وكان ثمن النخلة تبلغ ألفاً. فقيل له في ذلك. فقال: إن أمي اشتهته، وليس شيء من الدنيا تطلبه أمي أقدر عليه إلا فعلته.
ـ وكان أبو هريرةt إذا خرج من منـزله وقف على باب أمه فيقول: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته. فترد عليه ذلك. فيقول: جزاكِ الله عني خيراً كما ربيتني. فتقول: وأنت جزاكَ الله خيراً كما بررتني كبيرة. ثم يخرج، فإذا رجع قال مثل ذلك.
ـ وكان علي بن الحسين رحمه الله لا يأكل مع أمه وهو من أبر الناس بأمه. فقيل له في ذلك. فقال: أخشى أن أمدّ يدي إلى ما سبقت إليه عينها. فأكون قد عققتها.
إن من بر الأم: طاعة أمرها, وخفض الجناح تذللاً لها, وإدخال السرور إلى قلبها , ومقابلتها بالبشر والتكريم , وتفقد حاجاتها وتلبية رغباتها.
سأل رجلٌ النبيَ rفقال: (من أحق الناس بحسن صحابتي, أو قال: من أبر؟ فقال: أمك، قال r: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك).
قال الذهبي رحمه الله:"حض على بر الأم ثلاث مرات و على بر الأب مرة واحدة و ما ذاك إلا لأن عناءها أكثر و شفقتها أعظم مع ما تقاسيه من حمل و طلق و ولادة و رضاعة و سهر ليل".
فرحم الله من اغتنم بر والديه,وحرص على تحقيق موعود قول النبي: "رضا الله في رضا الوالدين, وسخط الله في سخط الوالدين ".
فإياك والعقوق فإنه من أسباب غضب الرب سبحانه وموجبات عذابه. يقول النبي :r "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات".
إن من العجيب أن يستبدل الإنسان البر بالعقوق, والإحسان بالعصيان, مع أقرب ألناس إليه وأبرهم به ! فإن من الناس من لو أحسن إليه أحدهم، لما نسي معروفه, ولأثنى عليه كثيراً, وتمني أن يكافئه بمثل معروفه أو أعظم.
هذا ! وأمك التي رعتك كما ترعى العينَ جفُوُنها. تحميها من ذرة تراب أو قطرة ماء. ولا يقر قرارها حتى تتخلص من قذاها. فكنت أنت لأمك العين وكانت هي لك الجفون. بل أنت عندها فلذة كبدها. فأعلم أنك إن بررتها فإنك إنما ترد معروفها, ولن تكافئها عليه. فقد كانت لك محِبة, ترجو طول عمرك وهي تقوم بتربيتك ورعايتك, وأنت إن بررتها في كبرها إنما تنتظر موتها. فشتان بين إحسانها وإحسانك.
فاتق الله في أمك, وإن أردت الجنة فألزم برها. فقد جاء رجل إلى رسول اللهr يريد الغزو. فقال له رسول الله:" لك أم ؟ قال الرجل: نعم. قال: ألزمها فإن الجنة عند رجليها ".
محمد بن علي الشيخي . mali96@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق