المؤمن القوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.وبعد:
فلا ريب أن المؤمن حقاً: هو من أقام أركان الإيمان اعتقادًا وإخلاصاً وتصديقاً في القلب. وعملاً وقولاً باللسان. والتزاماً بشرائع الدين كلها. كما في قول الله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِك َهُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
لكن على من أراد أن تشمله هذه الآية أن يجتهد في العبادة, وتحصيل كل ما أمكنه من شعب الإيمان؛ ليزداد إيمانه قوة ويقيناً, وترتفع بذلك درجته عند الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ".(متفق عليه)
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:" إن للإيمان حدوداً وفرائض وسننا وشرائع فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ".
فإذا وفق الله العبد للهداية للإيمان فإن من شكر الله على هذه النعمة سؤاله تعالى تمام النعمة بالاستقامة على دينه, والحرص على تحصيل الأسباب التي يزداد بها إيمانه يقيناً وقوة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, وفي كل خير, احرص على ما ينفعك ولا تعجز".(أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجه)
"والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس (والرغبة) في أمور الآخرة".( ينظر شرح مسلم للنووي16/215).
فالأولى بالمؤمن أن يتعاهد إيمانه بفعل خصال البر التي ذكرها الله في كتابه أو أرشد إلي نبيه صلى الله عليه وسلم. فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن الإيمان ليخلق - أي: يبلى - في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلِق, فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم". (ينظر مجمع الزوائد للهيثمي: 1 / 52 )
ومتى كان المسلم عازماً على الفوز برضوان الله وجنته، ومشفقاً من تقصيره, أو تعرضه لسخط الله. فلا بد له أن يتعرف على مستوى الإيمان في قلبه فيغذيه بالأعمال الصالحة التي تقويه وتنميه. ويحذر كل ما يوهن دينه من الأهواء كالرياء , والعجب.., أو يضعفه من الخطايا والسيئات. ومتى وقع في شيء من ذلك بادر إلى الاستغفار والتوبة.
إن مما يعين صاحب العزيمة الصادقة على تحصيل مراده من الإيمان القوي الكامل: أن يتعرف على ما يحصل له من الخير إذا كان قوي الإيمان, ويدرك الأخطار التي تحيط بضعيف الإيمان, فإن من المعلوم أن الإيمان يزيد بالطاعة والاستقامة وخصال البر، وينقص ويضعف بالمعاصي والذنوب.
فمن فوائد قوة الإيمان:
· أن المؤمن القوي ينال الشرف العظيم بمحبة الله جل وعلا له ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ".
· كلما سعى المؤمن لتقوية إيمانه بالفرائض والنوافل وسائر الطاعات ؛ كلما كان أقرب إلى الله وأحب إليه. كما قال الله تعالى في الحديث القدسي:" ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ".(أخرجه البخاري )
فمن أدرك هذه المنـزلة الرفيعة ألا وهي محبة الله؛ فقد نال الخير العظيم من توفيق الله وتسديده له, وعونه, واستجابة دعائه.
فليجتهد كل ناصح لنفسه في تقوية إيمانه وزيادته بكل ما يحبه الله عز وجل من النوافل والأعمال الصالحة؛ ليحظى بمحبة ملك الملوك جل وعلا وعونه وتوفيقه.
· ومن فوائد قوة الإيمان: الأمن من أهوال يوم القيامة،كما قال الله سبحانه:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْن ُوَهُمْ مُهْتَدُونَ }.
فالصادق في إيمانه له الأمن في الدنيا من الفتن، وله الأمن يوم الفزع الأكبر، وله مع ذلك الضمان بالهداية إلى الصراط المستقيم. وعبور جسر جهنم آمناً إلى جنات النعيم, فلنتأمل الدليل على ذلك في ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل في أحداث القيامة قال فيه:" ثم يضرب الجسر على ظهري جهنم. قالوا: وما الجسر؟ قال: دحض مزلة، فيه خطاطيف وكلاليب، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق والريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلّم، ومخدوش مرسل". وفي رواية:"يـمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب! سلّم سلّم . حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أُمرت به فمخدوش ناجٍ ومكدوس في النار ".( متفق عليه)
فبحسب قوة الإيمان والأعمال الصالحة يكون المرور على الصراط, وهو تصوير واضح لحال صاحب الإيمان القوي الذي يمر كالبرق, أو الريح أو الطير. ولضعيف الإيمان الذي لا يكاد يسير إلا زحفاً.!
· ومنها: الحرص على تقوية إيمانه بالأعمال الصالحة من العبادات الظاهرة من الصلاة والصوم والصدقة والجهاد والبر والإحسان وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذكر وصحبة الصالحين ونحو ذلك, إضافةً إلى العبادات الباطنة كالرضا بالقضاء والتوكل على الله والصبر فكل ذلك أيضاً يكسب المؤمن قوة اليقين, وطمأنينة القلب, ورسوخ الإيمان. فمهما واجه من الشدائد والمصائب فإنها لا تؤثر فيه؛ لقوة إيمانه. يدل على ذلك ما ذكره الله تعالى من حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين قابلوا تهديد الكفار بصدق التوكل على الله وقوة الإيمان، كما قال سبحانه عنهم:( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ). فزادهم الله إيماناً مع إيمانهم, وكبت عدوهم, يقول تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
فصاحب الإيمان القوي يتلقى المصائب بنفس مطمئنة, قد روضتها الأعمال الإيمانية, كالتوكل والصبر والرضا. فلا تضره فتنة، وإنما يزداد بها يقيناً وقوة في إيمانه. بينما يكون ضعيف الإيمان مشتت الفكر, مهزوم القلب ,فما إن تعرض له شدة أو مصيبة إلا ويسرع في طلب المخرج مما أصابه, ولو بالذهاب إلى السحرة والكهان. وقد يجر على نفسه ما هو أعظم من خطر المرض أو المصيبة التي أصيب بها، فلعله أنه يُسلب إيمانه وهو لا يشعر, يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من أتى عرافاً أو كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ". ( أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي, وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم5939)
· إن المؤمن ليزيد بالإيمان قوة في بدنه, كما يلاحظ فيمن يأتي من الأعمال ما يعجز عنه ضعيف الإيمان, فقوة الإيمان عند الصائم تكسبه ما يعجز عنه قوي الجسم ممن هو أضعف إيماناً منه. وكذلك ما يشاهد من قوة التحمل في فعل الطاعات الأخرى كالقيام في صلاة الليل والتطويل فيها, فصاحب الإيمان القوي له من القوة على ذلك ما ليس لصاحب الإيمان الضعيف. فترى لكبار السن من القوة على الطاعة ما ليس للشباب.
فمن أيقظ فكره، وتذكر نعمة الإيمان التي تفضل الله بها عليه، فلا شك أن تلك المظاهر وسواها حاضرة في ذهنه وقلبه! قد عقد العزم على تحصيل الحظ الأوفر والنصيب الأوفى منها. فهو يسعى طوال عمره في طلب الزيادة من الطاعات والحسنات التي تقوي إيمانه وترجح ميزانه، لا يعرف العجز إلى قلبه سبيلا، ولا يتطرق الكسل والوهن إلى عزيمته. وهو مع ذلك وقبله دائم التضرع إلى مولاه أن يوفقه للإيمان الكامل ويثبته عليه.
فذلك هو المؤمن القوي بعزمه وحزمه على طاعة ربه, وكل ما ينفعه في دنياه وآخرته، المسترشد بقول نبيه عليه الصلاة والسلام:"احرص على ما ينفعك, واستعن بالله ولا تعجز. ( أخرجه مسلم)
على إن من أخطر ما يعرض للمسلم: الغفلة عن مصيره, ونسيان نصيبه من الخير, والميل إلى العجز والكسل, والاطمئنان إلى الأمل الخادع، فيحرم نفسه من هداية الله ومحبته, ويستعيض عن ذلك بالركون إلى عدوه المتربص به, الذي يزيين له الشهوات المحرمة، ويهّون عليه معصية الله وتعدي حدوده، ويثبطه عن الطاعة, ويخادعه عن التوبة بالتأخير والتسويف, ولا يزال يحبب إليه المعاصي والذنوب؛ ليطفئ نور إيمانه.
ولكن الموفق: من نصح لنفسه فاجتهد في الأعمال التي ترضي ربه, وترفع درجته, وتقوي إيمانه, فينافس في أعمال البر, ويسابق إلى الخيرات، ولا يزال ذلك شأنه ودأبه حتى يلقى ربه! فإن من فضل الله على المؤمنين أنه حثهم على ما فيه الخير لهم فقال:{وسابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }. وقال سبحانه:{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَالنَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْكٌ* وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.
وحث النبي عليه الصلاة والسلام على طلب الدرجات العلا من الجنة, وذلك بالاجتهاد في تحصيل الأعمال الصالحة التي يرتقي بها المؤمنون درجات الجنة, فقال عليه الصلاة والسلام:"إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق. قالوا:يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء.فقال: كلا والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين !".(متفق عليه)
إن الإيمان لينمو بالعمل الصالح، ويزكو بالإخلاص واليقين والصدق والخوف من الله, ورجائه, وصدق التوكل عليه تعالى, وحسن الإنابة إليه.
فهنيئاً لمن وفّقه الله لتقوية إيمانه, وسعى في تزكيته بالأعمال الصالحات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق