الاثنين، 30 مارس 2015

عموم الرسالة وكمال الشريعة


عموم الرسالة وكمال الشريعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن الله عز وجل أرسل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة عامة للخلق كافة وشريعة كاملة, تنظم شؤون حياتهم, وتفصِّل أمور دينهم, وتكفل لهم الخير والسعادة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
 دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إلى حق الله تعالى وبيّنه للناس أتم البيان, قال الله سبحانه:{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا }.[الأعراف: 158] وقال تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}.[ الفرقان:1] ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الرسالة وأكمل الله له الدين قال عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. [المائدة: 3]
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للإنس والجن, فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:" أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ". (البخاري ومسلم)  وقال في حديث آخر".. وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ". (مسلم والترمذي، وأحمد) وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمدٍ بيده, لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة, يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار ". (مسلم والإمام أحمد)
     فعموم الرسالة يقتضي ولابد صلاحيتها لكل زمان ومكان، وشمولها أحكام العقائد والمعاملات، في أكمل شريعة عرفتها البشرية وأيسرها، فلم تترك شيئاً من الخير إلا دلت عليه ودعت إليه , ولا شيئاً من الشر إلا حذّرت منه, قال الله سبحانه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.[النحل: 90,89] وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا و ذكر لنا منه علما، فقال صلى الله عليه وسلم:" ما بقى شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ".( الطبراني في الكبير وأحمد والبزار وصححه الألباني في الصحيحة 1803)
ويقصد بعموم الرسالة شمول أحكامها وعقائدها لمصالح الخلق عموماً إنسهم وجنهم, في دينهم ودنياهم وآخرتهم, من لدن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم  إلى يوم القيامة, فإن المتأمل لها والباحث عن الحق, يرى الكمال والصلاح والعدل أبرز سمات هذا الدين. فلقد عنيت هذه الشريعة بحياة الإنسان منذ كان جنيناً في بطن أمه، وقبل ذلك، حين غرس في منبت ذات الدين، ثم شرعت لحياة الرحم القصيرة المحدودة أحكاماً تحفظه.
 فمن ذلك مثلاً: أنها جعلت عدة الحامل إلى الوضع، في الطلاق والإحداد، وفي ذلك حفظ لحق المولود ورعاية لـه، وكذلك لمعرفة نصيبه من الإرث عند وفاة أبيه، ورفقاً بهذا المولود طالت عدة المطلقة حتى تضعه، فلعله يكون شفيعاً برجعة أمه، وليعيش في حضن أبويه.
ونظمت أمر ولادته في العقيقة والختان والتسمية والتربية والرضاعة وجعلت تمام الرضاعة إلى حولين.
وشرعت أحكام الحضانة والكفالة له عند فراق الأبوين بطلاق.. مثلاً، وسارت معه خطوة خطوة، تنظم شؤونه، وترعى أموره أكمل رعاية، وأتمها، إلى أن ينتهي أجله، فشرعت للميت أحكاماً في غاية العناية به، ففرضت له غسله، وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه.
ولم يكن شمول أحكام الشريعة الكاملة ليقف عند ذلك، بل تعدى إلى ما بعده، فعنيت به فيما خلَّف في الدنيا من ولدٍ وزوجة ومال. فحفظت لـه ذلك، وتولت قسمة ماله على ما فرض الله من أحكام المواريث، حفظاً لحقوقه، ورعايةً لأيتامه، وأرامله، وعدةً لزوجته. ولا يزال صلاح وعموم الرسالة مع العبد من بعد ذلك كله، فقد رافقته بأحكامها إلى هذا المنـزل ـ القبر والدار الآخرة ـ وقد أخبرته من قبل في سن تمييزه وهو صبي، وبالغ راشد بما خلق لـه، وأن هذا الطور من الحياة: إنما هو الطور الأدنى والمرحلة الدنيا التي يجب عليه أن يقضيها في التزود للحياة الأخرى الباقية، وتكفلت لـه بطرق السلامة من الشدائد وكيد الأعداء، وأوضحت لـه معالم الصراط المستقيم، وأمرته بسلوكه والاستقامة عليه، وحذرته من الانحراف عنه. ثم بشَّرته بمآله السعيد، وقصّت عليه أخبار مآبه ومصيره حتى كأنه يراه نظر العين.
ولهذه المعاني وسواها جاء هذا الدين رحمة للعباد كما قال الله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }.[الأنبياء: 107]
فبهذا يعلم أن الشريعة الإسلامية تحمل مقومات السعادة والصلاح لكل بيئة وزمن، والإصلاح لكل جيل ومجتمع، إذا أخذت منها الأحكام الشرعية والعقدية، وجعلت منهجاً للحياة، كما أخذها الجيل الأول، فصلح بها حال سلف هذه الأمة، بل عادت عليه أيضاً بالرفعة والسنا، والعزة في الدنيا، وحسن العاقبة في الأخرى.
ومع صلاحها في مضمونها، وكمالها وشمولها، فإنه لا يدانيها فضلاً عن أن يساويها غيرها في سعتها ويسرها وسماحتها، فهي كفيلة بتسييـر دفة الحياة في أمن من التعسف والجور، وفي أمان وسلامة من مظاهر القصور؛ لسعتها وكمالها وتنـزيلها من حكيم حميد, وفيها ضمان بالحياة الكريمة لأمة استجابت لها، وسيَّرت مناهجها ونظمها في عقيدتها وشريعتها وفق أحكامها ومبادئها.
بيد أنه إذا قيل إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فلا يعني ذلك جواز تحويرها وتقنينها وتكييفها لموافقة الأهواء والرغبات، ومواكبة التطور. فإن هذا جفاء في القول، وخطأ في الفهم، بل المراد أن صلاحها سمة أساسية فيها، متى أُخِذت كاملة غير مجزأة في إطارها المتكامل. ونظمت بموجب شريعتها وعقيدتها كل شؤون الحياة، وأصبحت هي الشريعة الحاكمة، والمنهاج الذي تدور في فلكه أمور الحياة كلها، عندئذٍ تكون النتيجة؛ هي الصلاح والفلاح, ويدرك الناس حينئذ أنها الشريعة الكفيلة بسعادتهم وتحقيق مصالحهم، فلا يجوز الخروج عنها، أو تعدي حدودها.
ثم يجب مع قبول هذه الرسالة أن يكون تلقيها بالرضا والاغتباط بـها، لا على الإغماض، أو النفاق والامتعاض، فإن ذلك ينافي القبول والاستسلام. فإن الله تعالى يقول:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. [65: سورة النساء ]
ثم إن الإيمان بعموم الرسالة وكمالها يقتضي الرضا بحكمها, والعمل بها في الأصول والفروع، أصول التوحيد وأنواعه من توحيد الربوبية والألوهية، والأسماء والصفات, في السنة والإيمان وشعبه, في أصول العبادات والمعاملات، والمسائل الفقهية وفروعها.
ومن كمال هذه الشريعة أنها أولت جميع جوانب الحياة اهتمامها, فنظمت الحقوق المالية من بيع وشراء, وودائع وميراث, واهتمت بالجوانب الاجتماعية فحفظت حقوق الفرد والأسرة,ونظمت أمور النكاح والطلاق والعدة, ودعت إلى حسن العشرة بين الزوجين, وأمرت بالعدل والبر والصلة, ورغبت في العفو وأداء الأمانة وحفظ العهد.وكذلك في جانب السياسة, فقد فصلت حق الحاكم والمحكوم, واهتمت بالعلاقات الدولية وبينت أسس التعامل بينها في السلم والحرب والمعاهدة إلى غير ذلك..
 فالواجب على المسلمين أفراداً وحكومات التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه يقول الله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.[المائدة:48 ]  ويقول سبحانه:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.[ الأحزاب:36]
أسأل الله أن يعز دينه ويعلى كلمته وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً إنه سميع مجيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ياطالب السعادة

  ياطالب السعادة!   اعلم وفقني الله وإياك: أنّ السبب الجالب للسعادة في المقام الأول هو تقوى الله في السر والعلن، وأن مآل المتقين إلى الجنة، ...