10 شوال, 1433
|
الحمد والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:
قيام البيت المسلم على المودة والرحمة مطلب شرعي شريف، وذلك يستلزم من الزوجين أداء الحقوق الواجبة عليهما، فإن ذلك يعود عليهما بالخير والمودة والسعادة، فينشأ الأولاد في بيت آمنٍ مطمئنٍ, ويعيشون حياة مستقرة، قال الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
ولكن قد يحدث ما يعكر صفو الحياة الزوجية من الخلاف والخصام, فمتى كان الزوجان عاقلان وراغبان في العيش معاً فإن تجاوز ذلك متيسر لهما, إذا تجنب كل منهما ما يهدد استقرار الأسرة.
والواجب بذل المزيد من الإحسان والمعاشرة بالمعروف، والقضاء على أسباب الخلاف برويةٍ وحكمة وحسن نية، والتفكر في العواقب التي تحصل من سوء المعاملة، فقد يتفاقم الشقاق والخلاف، فيحدث مالا تحمد عقباه فيقع الطلاق وتتفرق الأسرة.
فبالنظر إلى كثير من حالات الطلاق يتبين أن أهم أسبابه الجهل بالعواقب والتسرع والغضب, إضافة إلى سوء المعاشرة.
وكما هو معلوم فإن الطلاق مما يُفرح الشيطان وذلك لما له من سوء العاقبة وشدة الضرر.يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منـزلةً أعظمهم فتنة, فيجئ أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً, قال: ثم يجئ أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نعم أنت".(أخرجه مسلم).
وفي مقابل ذلك فإن الطلاق مما يغضب الرب جل وعلا, ففي الحديث:"أبغض الحلال إلى الله الطلاق". ( أبو داود وابن ماجه)*
فالواجب على الزوج أن يحرص على ما يرضي الله تعالى ويتجنب ما يغضبه، فيعاشر زوجته بالخلق الحسن, ويغض الطرف عما يحدث منها من خطأٍ وتقصير, ويصبر على ما فيها من الصفات التي لا ترضيه، قال الله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة, فإن استمتعت بها استمتعت بها, وبها عوج, وإن ذهبت تقيمها كسرتها, وكسرت طلاقها". وقال أيضاً:" استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع, وإن أعوج شيء أعلاه, إن تركته لم يزل أعوج".(أخرجهما مسلم)
وللطلاق آثار سيئة على جميع أفراد الأسرة.
فمن آثاره وأضراره على الزوجة: مفارقتها البيت الذي عاشت فيه حياة سعيدةً في منـزل درج فيه أطفالها, وعاشوا في حنان الأبوين, ثم فجأة يتفرق الجميع، وتتقطع الحبال بالزوجة فتتجرع الغصص وتكابد المعاناة، بل وقد يلازمها هذا الشقاء ما بقي من عمرها فتعيش حسيرةً كسيرةً وحيدةً حزينة. وإن تيسير لها الزواج مرة أخرى على أمل أن تندمل جراحها، فقد تبقى متوجسةً, تخشى أن تتكرر معاناتها, وتتجدد مأساتها فتطلق مرة أخرى, فقد نغصت تجربتها الأولى عليها الحياة. فكم من إمراة ظلمت ممن ليس كفواً للزواج, فكسرها بالطلاق، وذهب غير مبالٍ بما يجره فعله هذا على الأسرة والمجتمع من العواقب الوخيمة.
ومن أضرار الطلاق: أن كثيراً من الناس ينظر إلى المرأة نظرة فيها شيء من الريبة والشك, بل وقد لا تسلم من نهش عرضها والافتراء عليها بالقيل والقال. كل ذلك نتاج أحمق طائش.
وللطلاق آثار سيئة على الزوج أيضاً: فبعض الأزواج يطلق بغير سبب يوجب ذلك، فيوقع نفسه في حرج كبير, إضافة إلى الإثم الذي اكتسبه بظلم زوجته وما لحقها من العناء بسبب الطلاق.
ومنها: أن الطلاق غالباً ما يقع في حال الغضب, فإذا حاول الزوج تدارك الأمور فقد يصطدم بجدار صلب من عناد المرأة وأهلها، فيندم حين لا ينفعه الندم.
وإن من أسوء آثار الطلاق: تعدي أضراره إلى الأولاد، فقد يكون الطلاق سبباً في ضياعهم، فتصيبهم الاضطرابات النفسية والسلوكية, مما يقود بعضهم إلى الوقوع في الجرائم، وقد يزداد الأمر سوءاً بأحدهم فيصبح مجرماً حاقداً على المجتمع يُفقِده الأمن كما افتقده هو من قبل، وكل ذلك بسبب تلك الكلمة الطائشة.
إن الزواج لم يكن في يوم من الأيام غلاً في الأعناق، كلا ! وإنما هو بمثابة العقد الثمين تزين به المرأة جيدها، ووشاحاً يفتخر الزوج بارتدائه. وهو قبل ذلك رباط مقدس معقود بكلمة الله.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ".(مسلم)
فمن كره من زوجته بعض أخلاقها فليصبر, وليتذكر أن فيه هو أيضاً من الصفات ما تكرهه. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يَفرَك مؤمن مؤمنة - أي: لا يبغض - إن كره منها خلقاً رضي منها آخر". ( مسلم)
ولكن من رحمة الله بعباده أنه متى أيس الزوجان من القيام بما أوجب الله على كل منهما من الحقوق تجاه الآخر, واتسعت رقعة الخلاف بينهما؛ فحينئذ تشرع المفارقة بالتي هي أحسن, وإيقاع الطلاق على الوجه الشرعي، فالحياة الزوجية لا تقوم إلا على المودة والرحمة والمعروف،كما قال الله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
فعلى الزوج عندما يتيقن أن الطلاق هو العلاج والحل الأنسب أن يطلق للسُنة، وذلك بأن يطلق طلقة واحدة في حال الحمل أو في طهرٍ لم يجامعها فيه، ثم تعتد في بيتها وينفق عليها الزوج حتى تنقضي العدة. وعليها أن تخبره ببداية العدة ونهايتها, فقد أمر الله بإحصاء العدة, ويجب عليها قبل ذلك تقوى الله وكفّ الأذى عن الزوج وأقاربه, قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }.
والمطلقة للمرة الأولى أو الثانية لا زالت زوجة ما دامت في العدة. ويجوز لها التزين لزوجها, فإن راجعها قبل انتهاء العدة فله الحق في ذلك, وعليه أن يُشهد على طلاقها ورجعتها, قال الله عز وجل:{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}. وقال سبحانه:{ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا }. فإن راجعها بقيت على ما كان لها من عدد الطلقات, وإلا فارقها بإحسان.
وعلى الزوج أن يحذر أن يوقع على امرأته أكثر من طلقة, أو أن يطلق في غير زمن العدة. فإن ذلك مخالف للسنة, ومما يزيد الزوجة ضرراً ومشقة. وقد حرّم الله الإضرار بها فقال:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}.
وليحذر الزوج التلاعب بالطلاق, ففي الحديث:" ثلاث جِدهن جد, وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة ". (أبو داود والترمذي وابن ماجه)
وليتجنب ما يجري على ألسنة بعض الناس, من التهاون بالطلاق فكلما أراد أمراً علّقه بالطلاق. فقال: عليّ بالطلاق, وبالطلاق كذا وكذا.فإن ذلك من التعدي على حدود الله قال تعالى:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
أخي: لحظة من فضلك: هل فكرت في آثار الطلاق وسوء نتائجه؟
الطلاق كسر لقلب المرأة, وقلوب أولادك وأصهارك, بل ووالديك..فاحذر أن تقدم على أمر تندم عليه كثيراً.فانتبه..لا تكسرها "فكسرها طلاقها".
فلنأخذ جميعاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم:"استوصوا بالنساء خيراً",ولنحذر دواعي الهجر والشقاق والاختلاف فإنها من أسباب الطلاق.
أسأل الله أن يقيم بيوتنا على المودة والرحمة والتقوى, وأن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى.
ـــــــ
* حديث "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".أخرجه أبو داود:2178,قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:"إسناد جيد قوي ".حاشيته على بلوغ المرام 612. وأخرجه ابن ماجه:2018.وفي رواية:" ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق ".وهو في المستدرك للحاكم وصححه, ووافقه الذهبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق