الاثنين، 8 يناير 2018

المختصر في التعريف بسيد البشر صلى الله عليه وسلم


كان أول أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أنا دعوة أبي ابراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام".

ولد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة يوم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر ربيع الأول من عَام الْفِيل. وَمَات أَبوهُ وَهُوَ بِبَطن أمه. وأرضعته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مولده ثويبة مولاة أبي لهب، ثم حليمة السعدية وَبَقِي عِنْدهَا خمس سِنِين وَرَأَتْ من بركاته شَيْئا كثيرا, وَعِنْدهَا شقّ صَدره ومُلئ إِيمَانًا وَحِكْمَة.

ولما بلغ سِتّ سِنِين مَضَت بِهِ أمه إِلَى أَخْوَاله بِالْمَدِينَةِ لتزورهم فلما عادت بِهِ مَاتَتْ بالأبواء، فحضنته مولاته أم أَيمن. وكفله جده عبد الْمطلب، ثم توفي وَالنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم في الثامنة من عمره، فَكَفَلَهُ بعده عَمه أَبُو طَالب، وقد أحبه وعطف عليه، ولذلك خرج بِهِ في رحلته إِلَى الشَّام.

وقد كان صلى الله عليه وسلم وهو في صغره يرعى الغنم لقريش، وعُرف بالصدق والأمانة لذلك اختارته لخديجة بنت خويلد ليخرج في تجارة لها إلى الشام، فباع واشترى وربح .

 ثم بعد عودته خطب خديجة وتزوجها وهو في الخامسة وَعشْرين من العمر وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، ورزقه الله منها أولاده: عبد الله والقاسم وماتا صغيرين, وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.

وَلما بلغ خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة شهد بُنيان الْكَعْبَة ورضيت قُرَيْش بِحكمه، وَوضع الْحجر الْأسود بِيَدِهِ.

وَلما أكتمل له أَرْبَعين سنة ابتعثه الله عز وجل برسالته إلى النَّاس كافة بشيرا وَنَذِيرا. وكان قد حبب إليه التعبد في غار حراء؛ فلم يشعر في إحدى المرات إلا وقد فجاءه جبريل  وقال له: اقرأ، فأخبره أنه ليس بقارئ، أي لا يعرف أن يقرأ. فغطه جبريل مرتين أو ثلاثا ليهيئه لتلقي القرآن العظيم، فأول ما أنزل الله عليه:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ...}.
فرجع إلى خديجة ترعد فرائصه من الفرَق، وأخبرها بما رآه وما جرى عليه، فقالت خديجة رضي الله عنها: أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، أي: ومن كانت هذه صفته فإنها تستدعي نعما من الله أكبر منها وأعظم، وكان هذا من توفيق الله لها ولنبيه، ومن تهوين القلق الذي أصابه. فكانت له نِعم الزوجة ونعِم السند والرفيق. وكانت رضي الله عنها أول من آمن بِالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأسلم َأَبُو بكر الصّديق وعلي بن أبي طَالب وَزيد بن حَارِثَة, ثمَّ أسلم عُثْمَان بن عَفَّان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وَأبُو عُبَيْدَة بن الْجراح. رضي الله عنهم.

ثم فتر عنه الوحي مدة ليشتاق إليه وليكون أعظم لموقعه عنده، وكان قد رأى الملك على صورته فانزعج، فجاء إلى خديجة أيضا ترعد فرائصه فقال:" دثروني  دثروني"، فأنزل الله عليه:{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ .وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ . وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }.
فكان في هذا: الأمر له بدعوة الخلق وإنذارهم، فشمر صلى الله عليه وسلم عن عزمه، وصمم على الدعوة إلى ربه؛ فقوَّى الله عزمه، وأيَّده بروح منه.
وأسلم جماعة من الصحابة منهم عمه حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب وبلال وعمار بن ياسر وصهيب وخباب وغيرهم. 

واستمر صلى الله عليه وسلم يدعو قومه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن، وكان كفار قريش إذا سمعوه صموا آذانهم كيلا يسمعوا القرآن، وقد يسبونه ويسبون من أنزله، فأنزل الله على رسوله آيات كثيرة في هذا المعنى يبين حالهم مع سماع القرآن فقال:{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ *فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ }. وفكر رؤساءهم في الشر وقدروا ونظروا فيما يقولون عن القرآن ويصفونه به؛ لينفروا عنه الناس، حتى قال الوليد بن المغيرة: إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر، ولكن أبى الله إلا أن يعلو هذا الكلام كلَّ كلام، ويزهق هذا الحق كل باطل، وكانوا من إفكهم يقولون في القرآن الأقوال المتناقضة، يقولون: إنه سحر، إنه كهانة، إنه شعر، إنه كذب، إنه أساطير؛ كل ذلك أثر البغض الذي أحرق قلوبهم، حتى قالوا فيه مقالة المجانين، وكلما قالوا قولا من هذه الأقوال، أنزل الله آيات يبطل بها ما قالوا، ويبين افتراءهم وتناقضهم.
وكانوا أيضا يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم الأقوال، يقولون: لو أن محمدا صادق لأنزل الله ملائكة يشهدون له بذلك، ولأغناه الله عن المشي في الأسواق، وطلب الرزق{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا . أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا . انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}.
وكانوا يسعون أشد السعي أن يكف عن عيب آلهتهم، والطعن في دينهم، لعلمهم أن آلهتهم ليس فيها شيء من الصفات يوجب أن تستحق شيئا من العبادة، يعرفون حق المعرفة أن ما هم عليه هو الباطل. فكانوا يقترحون الآيات بحسب أهوائهم، ويقولون: إن كنت صادقا فأتنا بعذاب الله، أو بما تعدنا، أو أزل عنا جبال مكة، واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا، وحتى يحصل لك كذا وكذا مما ذكره الله تعالى عنهم،{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا . وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}، فأيده الله بالآيات، والله أعلم بما ينزل من آياته، وأعلم بما هو أنفع لهم، وقد حصل المقصود من بيان صدقه، وقامت الأدلة والبراهين على ذلك.
وأحيانا يقدحون في الرسول قدحا يعترضون فيه على الله، وأنه لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، ومحمد -في نظرهم -ليس كذلك، فلأي شيء يتفضل عليهم بالوحي؟{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }، فيجيبهم الله بذكر فضله، وأن فضله يؤتيه من يشاء،{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.

ولقي صلى الله عليه وسلم منهم من الأذى مالا يحتمل، ولم يثنه ذلك عن مواصلة الدعوة إلى توحيد الله، ويقرر ذلك بالبراهين والآيات المتنوعة، ويحذر من الشرك والشرور كلها منذ بعث إلى أن استكمل بعد بعثته نحو عشر سنين، وهو يدعوهم في مواسم الحج والأسواق ومجالسهم، فلم يلق منهم إلا الصدود والتكذيب والأذى. وربه يعده ويصبّره فيقول تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}. ويقول:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ .إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.

وعندما أشتد الحال بنبي الله صلى الله عليه وسلم وتعاظم تكذيب قومه وأذاهم له خصوصا بعد وفاة زوجته خديجه وعمه أبي طالب، فأسرى الله به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قال تعالى:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}،وعرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع، ورأى الأنبياء هناك ورحبوا به وسلموا عليه، ولم يزل يرقى حتى بلغ سدرة المنتهى ، وقرّبه ربه وكلّمه وفرض عليه الصلوات الخمس، ثم عاد من ليلته, وأخبر الناس بذلك، ثم جاءه جبريل من الغد فعلَّمه أوقات الصلاة وكيفيَّاتها، فكان فرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين.
وبلغ الإسلام المدينة وانتشر فيها وما حولها. وكان من جملة أسباب ذلك أن الأوس والخزرج كان اليهود في المدينة جيرانا لهم، وقد أخبروهم أنهم ينتظرون نبيا قد أظل زمانه، وذكروا من أوصافه ما دلهم عليه؛ فبادر الأوس والخزرج واجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة وتيقنوا أنه رسول الله، وأما اليهود فاستولى عليهم الشقاء والحسد، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وكان المسلمون في مكة في أذى شديد من قريش، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة أولا إلى الحبشة، ثم لما أسلم كثير من أهل المدينة صارت الهجرة إلى المدينة.
حينئذ خاف أهل مكة عاقبة ذلك فاجتمع رؤساؤهم في دار الندوة يريدون القضاء التام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتفق رأيهم أن ينتخبوا من قريش من كل قبيلة رجلا شجاعا، فيجتمعون ويضربونه بسيوفهم ضربة واحدة. قالوا: لأجل أن يتفرق دمه في القبائل، فتعجز بنو هاشم عن مقاومة سائر قريش فيرضون بالدية، فهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعزم على الهجرة، وأخبر أبا بكر بذلك وطلب منه الصحبة، فأجابه، وأمر عليًّا أن ينام على فراشه، وخرج هو وأبو بكر إلى غار في جبل ثور ، فلم يزالوا يرصدونه حتى برق الفجر، فخرج إليهم عليّ فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري.
ثم ذهبوا يطلبونه في كل وجهة، وجعلوا الجوائز الكثيرة لمن يأتي به، ووصلوا الجبل الذي فيه الغار يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وأنزل الله تعالى:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة وَمَعَهُ أَبُو بكر الصّديق، ونجاه الله من مكر المشركين، فلما وصل استقبله الأنصار فرحين مستبشرين، وَنزل صلى الله عليه وسلم بقباء أياما، ثم سَار حَتَّى بَركت نَاقَته في موضع مسجده اليوم . فنزل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي أَيُّوب حَتَّى بنى الْمَسْجِد وحجرات أهله, ثمَّ لحق بِهِ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ تَأَخّر بِمَكَّة لرد مَا كَانَ عِنْده من ودائع النَّاس.
وكان من أوائل التشريع بالمدينة أن أتمت صلاة الحضر، فقد كانت الصلاة أول ما شرعت ركعتين ركعتين.
ثم تحولت الْقبْلَة من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة بعد نحوٍ من سَبْعَة عشر شهرا. وَفرض الصَّوْم وزَكَاة الْفطر في السنة الثانية للهجرة.
ثم أذن الله عز وجل في قتال المشركين فقال تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا.           

وخرج إلى بدر في السنة الثانية للهجرة يعترض عيرا لقريش تحمل تجارة عائدة من الشام، خرج صلى الله عليه وسلم بمن خف من أصحابه في طلبها، فلما علمت قريش بذلك خرجت لحماية القافلة ، وتوافوا في بدر على غير ميعاد، ونجت العير، والتقى الرسول وأصحابه بقريش، وكانوا ألفا كاملي العدد والخيل، والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر على سبعين بعيرا يتعقبونها، فهزم الله المشركين هزيمة عظيمة، فقتلت سرواتهم وصناديدهم، وأُسر من أُسر منهم، وأصاب المشركين مصيبة ما أُصيبوا بمثلها، وفي هذه الغزوة أنزل الله سورة الأنفال، فمن ذلك قوله:{وَإِذ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .. }الآيات.

وبعدما رجع إلى المدينة مظفرا منصورا ذل من بقي ممن لم يُسلم من الأوس والخزرج، ودخل بعضهم في الإسلام نفاقا، ولذلك فجميع الآيات نزلت في المنافقين إنما كانت بعد غزوة بدر.

ثم في السنة الثالثة كانت غزوة أحد، فقد أراد مشركو قريش الثأر لما أصابهم يوم بدرا فأجمعوا على غزو المسلمين، فلما وصلوا أطراف المدينة، خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وعبأهم ورتبهم، والتقوا عند جبل  أُحد، وكانت الدائرة في أول الأمر على المشركين، لكن الرماة تركوا مركزهم الذي رتبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا فرار المشركين، وظنوا انتهاء المعركة ؛ فجاءت خيل المشركين من خلفهم؛ فاختلت صفوف المؤمنين فجرح جماعة منهم النبي صلى الله عليه وسلم، و أكرم الله بالشهادة في سبيله جماعة منهم حمزة رضي الله عنهم، يقول سبحانه:{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

وفي سنة خمس كانت غزوة الخندق، فقد اتفقت قريش وغطفان، وظاهرهم بنو قريظة من اليهود على غزو النبي صلى الله عليه وسلم، وجمعوا نحو عشرة آلاف مقاتل وقصدوا المدينة، ولما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم خندق على المدينة، وخرج المسلمون نحو الخندق، وجاء المشركون كما وصفهم الله تعالى بقوله:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}.
ومكثوا محاصرين المدينة عدة أيام، وحال الخندق بينهم، وحصلت مناوشات يسيرة بين أفراد من الخيل، وقيّض الله لانخذال المشركين عدة أسباب ، فرجعوا إلى ديارهم خائبين لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال،

ثم تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة الذين ظاهروا المشركين بقولهم وفعلهم على قصد المدينة، ونقضهم ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم،  حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وفي هذه الغزوة أنزل الله صدر سورة الأحزاب ومن ذلك قوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}.وقوله تعالى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}.

ثم في سنة ست من الهجرة اعتمر صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية، وكان البيت لا يُصدُّ عنه أحد، فعزم المشركون على صد النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولما بلغ الحديبية ورأى المشركين قد أخذتهم الحمية الجاهلية جازمين على القتال دخل معهم في صلح لحقن الدماء في بيت الله الحرام، ولما في ذلك من المصالح، وتمّ الصلح على أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم عامه هذا ولا يدخل البيت، ويكون القضاء من العام المقبل، وتضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين؛ فكره جمهور المسلمين هذا الصلح حين توهموا أن فيه غضاضة عليهم، ولم يطلعوا على ما فيه من المصالح الكثيرة، فرجع صلى الله عليه وسلم عامه ذلك، وقضى هذه العمرة في عام سبع من الهجرة، فأنزل الله تعالى سورة الفتح.{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا }.
فكان هذا الفتح لما فيه من الصلح الذي تمكن فيه المسلمون من الدعوة إلى الإسلام، ودخول الناس في دين الله حين شاهدوا ما فيه من الخير والصلاح والنور.

أما يهود بني النضير فإنهم حين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا على جانب المدينة غزاهم صلى الله عليه وسلم واحتموا بحصونهم، ووعدهم المنافقون حلفاؤهم بنصرتهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم، وأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يجلوا عن ديارهم ولهم ما حملت إبلهم، ويدعوا الأرض والعقار وما لم تحمله الإبل للمسلمين؛ فأنزل الله في هذه القضية أول سورة الحشر:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}.
لقد كان من بركات صلح الحديبية أن تفرغ النبي للدعوة ونشر الدين.
 
وفي السنة الثامنة من الهجرة نقضت العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فغزاهم في ما يقارب عشرة آلاف من المسلمين، ودخل مكة فاتحا لها، ثم تممها بغزوة حنين على هوازن وثقيف، ونصر الله رسوله وللمسلمين. فقال الله تعالى:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ }.

ولما عاد إلى المدينة قدم عليه وفد ثقيف ثم سائر القبائل مسلمة طائعة كما قال سبحانه{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}.

 وفي سنة تسع غزا تبوك، ولم يتخلف إلا أهل الأعذار وأناس من المنافقين، وكان الحر شديدا، والشقة بعيدة، فلما وصل إلى تبوك مكث عشرين يوما، فصالح أهل تلك النواحي، ثم رجع إلى المدينة؛ فأنزل الله سورة التوبة، ذكر فيها تفاصيل هذه الغزوة وشدتها، وأثني على المؤمنين، وذم المنافقين وتخلفهم، وذكر توبته على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة.

وفي سنة تسع من الهجرة فرض الله الحج على المسلمين، وحج أبو بكر بالناس سنة تسع، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى المشركين عهودهم، ويتم عهود الذين لم ينقضوا.

 ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سنة عشر واستوعب المسلمين معه، وأعلمهم بمناسك الحج والعمرة بقوله وفعله، وأنزل الله الآيات التي في الحج وأحكامه، وأنزل الله يوم عرفة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
فلم يزل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما فِي الله تَعَالَى مُجْتَهدا فِي نصْرَة دينه مُجَاهدًا فِي سَبيله ناصرا لِلْإِسْلَامِ حتى لحق بالرفيق الأعلى بعد أن بلّغ البلاغ المبين وقرّت عينه بما فتح الله على عباده من هذا الدين وأخرجهم الله من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان و من الذلة إلى عز الدنيا والآخرة ، فنشهد أنه صلى الله عليه وسلم قد بلّغ البلاغ المبين وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وتركنا على المحجة البيضاء فجزاه الله عنا خير الجزاء وصلى الله عليه وسلم تسليما.

                                                                                                   1438 هجرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ماذا يصنع الإيمان في اتباعه؟مقالة هند بنت عتبة يوم أسلمت..

 قصة هند بنت عتبة رضي الله عنها يوم الفتح.   قالت يوم أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم:   لقد أمسيتُ وما من أهل خباء أحب إليّ أن يذلهم ...