الثلاثاء، 3 مارس 2020

العين






العين


رواية هادفة





     






   

 


           المقدمة


بسم الله.. 

والحمد لله.. 

 والصلاة والسلام على رسول الله.

 وبعد:

بين يديك أيها القارئ العزيز هذه الرواية بعنوان: ( العين) .

 رواية اجتماعية في ستة فصول كل فصل عشر حلقات.

 تدور أحداثها حول مشاهد معبّرة، ومعان سامية.

في حوارات شيقة ومسامرات ممتعة. 

معززة بفوائد ثقافية متنوعة، ومقطوعات شعرية رائقة.  

في سرد قصصي لوقائع متنوعة  تمثل جزءًا من الحياة  في القرى العربية. 

تصور للقارئ طرفًا من الثقافة والعادات الموروثة، والآمال المتواضعة، وأنماط العيش الكادح المشوب بالجد والإصرار، الساعي نحو تحقيق الغايات السامية  الموصولة بالروابط الدينية الأصلية…

تجدها في حديث الأسرة.. في مجالس الرجال ..وفي أنديتهم..

وتعرّج على زوايا مضيئة تبرز صورًا من الترابط الأسري والتعاون الجماعي…

تصور الحياة الهادئة الهانئة المتفيئة ظلال الأمن والصفاء..التي ينشدها الكثير من الناس في عالم اليوم الذي يعج بالمتغيرات…

وفي هذه الرواية أرجو أن أجمع لك أيها القارئ في هذه السطور بين متعة القراءة وإثراء المعلومة.

                                                                              

               •••


            الفصل الأول


           [ الحلقة :١]


سعد وناصر صديقان تجمعهما الأخوة في الله.

يتفقان في كثير من الصفات كالصدق والوفاء والكرم وحب الخير للناس.. 

يزور كل منهما الآخر في داره، وأكثر أحاديث مجالسهما مذاكرة طرائف الأخبار، والفوائد والحِكم والأشعار.

جلسا ذات مرة بدار سعد جوار موقد النار، وكانت ليلة مقمرة طيبة الهواء يرتشفان القهوة، ويتجاذبان أطراف الحديث كعادتهما، ينتقيان أطايب الكلام وأحسن القصص وأعذب القصيد..

 فبينما كان ناصر منهمكًا في إعداد القهوة، كان سعد يردد قول الشاعر: 

أحسنت ظنك بالأيام إذا حسُنت  

    ولم تخف سوء ما يأتي به القدرُ

وسالمتك الليالي فاغتررت بها                    

   وعند صفو الليالي يحدث الكدر.


فالتفت إليه ناصر قائلاً : إنني معجب كثيراً يا ابا صالح بهذين البيتين من شعر الحكمة للإمام الشافعي رحمه الله .

سعد : هلّ لك فيما هو أفضل من ذلك يا أخي؟


ناصر: تفضل علينا مما أعطاك الله، ولكن  أود أن أطلعك يا صديقي العزيز قبل ذلك على أمر يؤرقني بين الحين والآخر.. ويضيق صدري، وتنقبض نفسي عن الناس والحديث معهم كلما عرض لي.


سعد: قل ولا تبالِ: ماذا تجد؟ هل يعرض لك غمٌ أو هَمٌ لدَين أثقل كاهلك، أو مرض… ؟

قل لي ماذا تجد، فلعلي أستطيع مساعدتك. 

ناصر: المرض الحمد لله، ما بي منه من بأس. ولكن عارض ينتابني لا أعرف له سبباً.

سعد: وهل يلازمك دائمًا، ويلبث معك طويلاً؟

ناصر: لا. ولكن ينتابني بين حين وآخر..

سعد: لا عليك، وعندي لك الدواء الناجع، بمشيئة الله تعالى.

ناصر: نِعم الأخ أنت، جزاك الله عني خيرا، دلني عليه حفظك الله، فقد أجهدني ذلك، وأقلّ راحتي. 

سعد: ابشر.. ولكن في المجلس التالي إن شاء الله، فإنني الليلة مشغول مثلك بأمر أهمني كثيراً. ومنذ وقت طويل. وأنت تظن أنك الوحيد الذي يعترضه الهم، والنوائب. 

ناصر:  "عسى الهم الذي أمسيت َفيه يكون له فرج قريب". 

سعد: عسى الله أن يجعل لذلك فرجاً من عنده.. 

ناصر:  هل تطلعني يا أبا صالح على ما يشغل  فكرك فلعلي أقوم ببعض حقك عليّ بمساعدتك ولو بالمشاركة في همك. 

سعد: في الواقع أنت شريك في ذلك يا أبا حاتم من حيث لا تشعر.. 

ناصر:  عجيبٌ هذا الأمر وأنا لا أشعر؟! ازددت حيرة يارجل! 

سعد : فوّض أمرك لمن بيده تصريف الأمور.

ناصر:  توكلت على الله. 

أستأذنك أيها الصديق العزيز والأخ الكريم. 

يتبع ...








 [الحلقة :٢]

في الليلة التالية اجتمع سعد وناصر كعادتهما.

ثم طلب ناصر من صديقه سعد، أن يواصل الحديث عن الدواء الذي أشار إليه و وعَده  ليلة البارحة ، 

فقال سعد: حبًا وكرامةً ،فاستمع مني يا أبا حاتم.

ناصر: قل أيها الطبيب الحبيب، فكلي آذان صاغية..

سعد: إن سألتك عن أمرٍ تجبني بصدق؟

ناصر: نعم، وبكل تأكيد. 

سعد: كيف أنت مع صلاتك؟ 

ناصر: الحمد لله، وأسال الله القبول، لا تفوتني الجماعة إلا لعذرٍ قاهرٍ، أو ظرفٍ طارئ. 

سعد: حسناً.

وهل تأتي بأذكار اليوم والليلة وأذكار أدبار الصلوات وتحافظ عليها بانتظام.؟

ناصر: الحقيقة ، مرةً ومرة، بعض الأحيان آتي بها، وعندما أكون في عجلة من أمري قد لا أتذكرها، أو أقرأها على عجل ودون حضور قلب.

سعد: هذا داؤك، وهذا سبب الضيق العارض الذي تذكر..

فلا تفرّط في أذكارك ، فهي الدواء والشفاء.

 يا أبا حاتم لعل ما تشكو منه يشاركك فيه غيرك، فكلنا بحاجة للتناصح والتعاون على البر والتقوى.. 

فاقْبل على تلاوة القرآن والأذكار، واجتهد في حضور القلب والذهن أثناء ذلك، وسترى بمشيئة الله خيرْا كثيراً. يقول ربنا جل وعلا: [وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ]. ويقول سبحانه:[يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ].

فذكرُ الله تعالى والمداومة عليه يجلب للقلب الطمأنينة ، كما قال الله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} فإذا اطمأن القلب بالإيمان وبالذكر استشعر لذة العبادة ولذة الحياة.

وسأذكر لك حديثاً فيه مشهد عظيم وبيان ظاهر لمكانة ذكر الله تعالى عموماً، ليكون حافزًا لك على ذلك. 

في صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:" يَقُولُ الله تعالى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".

ناصر: الله أكبر! الله أكبر! ما أعظم هذا الفضل.

سعد: الحقيقة يا أخي كم نحن مقصرون في ذكر الله، بل وفي كثير من الطاعات، والله المستعان، غرتنا الدنيا بزخرفها فتكالبنا عليها وألهتنا عن الاجتهاد للآخرة..

ناصر: صدقت أخي الغالي.

 اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

زدنا يا أبا صالح من هذه الكنوز.. زادك الله من فضله، فمسائل العلم هذه والمذاكرة فيها من أفضل ما تشغل به الأوقات والمجالس يقول الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس }.

والآن هل تأذن لي أخي الكريم بالتوقف هنا..؟ 

سعد : كما تحب.

يتبع…



         [الحلقة :٣]


في المجلس التالي أستأنف سعد وناصر حديث الليلة الماضية.

 فقال ناصر:

لقد أحسنت إلىّ كثيراً أخي الكريم، فقد عملت بما قلتَه، وحافظت على وردي اليومي من القرآن والأذكار، والحقيقة أني وجدت لذلك انشراحاً في صدري، وراحةً في نفسي. فجزاك الله عني خيراً. فعرفانًا مني بجميلك معي فقد نقلت من كلام ابن القيم رحمه الله عدة فوائد للذكر، فإن أحببت أن أذكرها، فعلت.

سعد: ما شاء الله، يظهر أنك لمست أثر الذكر؟

ناصر: صحيح يا أخي ، وقد وجدت والحمد لله بركته، وهذا ما شجعني على البحث.

سعد: هات ما عندك، هات يا أبا حاتم. 

ناصر: ابشر يا أبا صالح بما يسرك.

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الوابل الصيب: 

الذكر يُورثُ قُربَ العبد من ربه, فبقدر ذكر اللهِ عز وجل؛ يكون قُربُه مُنه.

ويُورث الهيبة من الله عز وجل وإجلاله.

وكما أنه يحطُ الخطايا ويُذهِبها، فإنه أعظم الحسنات. والحسنات يُذهبن السيئات.

ومتى تعرّف العبد إلى الله تعالى بذكره في الرخاء؛ عرفه في الشدة.

والذكر سبب لتنزّل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفُوف الملائكة بالذاكر.

والذكر أمانٌ للعبد من الحسرة يوم القيامة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ما جلس قوم مجلساً ثم لم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرةً يوم القيامة".

(المسند:٩٩٦٥)

ومن أجلِّ فوائد الذكر: أنه إذا استَصحَبَ الخشية لله، ودمع العين؛ كان الذاكر في ظل الله  يوم لا ظل إلا ظله، يوم يقوم الناسُ في حر يوم القيامة، إذا أُدنيت الشمس من الخلق على قدر ميل، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. والذاكر لله في ظل الرحمن آمناً من تلك الأهوال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم  عن السبعة الذين يظلهم الله بظله، فذكر منهم:" ورجلٌ ذكر الله خالياً؛ ففاضت عيناه".

ومع ذلك فإن الذكر أيسر العبادات وهو أجلُّها وأفضلها. فهذه نعمة عظيمة أن الله يسّره على العبد وجعل ثوابه عظيماً.

ومن فضل الله تعالى أن جعل الذكرّ أكبر عونٍ على طاعته. فإنه يحبب الطاعة للعبد، ويسهلها عليه، بل ويجعلها قُرة عينه، ويجعل فيها نعيمه وسروه.

ومن فوائده: أن ذكر الله: يحفظ الذاكر من الشياطين، وهو ليس له قدرة على حماية نفسه من أذاهم وشرهم إلا بذكر الله تعالى.

ثم يختم ناصر ذلك بقوله: حاولت جهدي أن ألخص ما ذكره رحمه الله.. فمعذرة على التقصير.

سعد: بل قد أحسنت، جزاك الله خيرا، فهذا من العلم الذي يجد المسلم أثره وبركته عاجلاً وآجلاً.

يتبع..



 





  


[الحلقة :٤]

   عزم سعد على السفر إلى مكة لأداء العمرة، وانقطع لذلك عن المجلس مدة يسيرة.

ثم بعد فراغه من عمرته عاد مسرعًا إلى بلدته.

وما إن علم صديقه ناصر بعودته حتى أسرع لمقابلته وزيارته. 

فبعد أن فرغ من صلاة العشاء توجه إلى دار صديقه..

وعندما اقترب من الدار رأى صديقه سعدًا خارج الدار يستقبله وهو في شوق إليه.

 ولما وصل ناصر سلّم وتعانقا.. وحيّا كلٌ منهما صديقه، ثم جلسا كعادتهما في المجلس المعدّ لذلك.

ثم بادر ناصر في لهفة يسأل سعداً: 

كيف كانت رحلتكم أيها المبارك؟

سعد: الحمد لله كانت رحلة ميسرة، وفقنا الله فيها لأداء العمرة والصلاة في المسجد الحرام.

يقطع ناصر عليه حديثه، فيقول: عذرا يا أبا صالح كثيرا ما أسمع كلمة( المسجد الحرام) فلماذا سمي (بالحرام)؟

سعد: سمي بذلك-والله أعلم- لأن الله جعله حرماً آمناً من الحبابرة منذ أن خلق السموات والأرض، يأمن أهله فيه، وقاصده، ويحرم فيه القتال والصيد..

ناصر: هل جاءت هذه التسمية في القرآن الكريم؟ 

سعد: نعم، قال الله تعالى: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) وقال أيضًا: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس)..إلى غير ذلك من الآيات..

ناصر: جزاك الله خيرًا على هذه الفائدة القيمة.

وكيف هي أحوال الناس هناك؟ 

سعد: إنَ أهل مكة في نِعمٍ عظيمة، رزقهم الله جوار بيته وعمارته بالصلاة والطواف وتلاوة القرآن..

في بلدٍ مبارك ..وخيراتٍ وفيرةٍ تأتيهم من كل مكان.. والحمد لله.

وقد رأيت الأرزاق من الأقوات والأنعام  والأمتعة والثياب من مختلف أرجاء الأرض، تباع بأسواق مكة، كسوق الليل، والسوق الصغير والجودرية..وكل مشترٍ يجد ما يشاء من بضائع الشام واليمن والهند وغيرها..

وصفوة القول: لقد شهدت بعيني مصداق دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في قول الله تعالى:{وَإِذ قالَ إِبراهيمُ رَبِّ اجعَل هذا بَلَدًا آمِنًا وَارزُق أَهلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَن آمَنَ مِنهُم بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ..}.

وقبل أن يختتم المجلس قدّم سعد  إناءً من حليب البقر المسخن لصديقه ناصر قائلاً: تفضل، اشرب هنيئًا يا أبا حاتم. 

أخذ حاتم الإناء وسمى الله ثم شرب حاجته، وحمد الله.. 

يتبع..


     [الحلقة :٥]

وأثناء ذلك نادى سعد ابنه صالحاً: فلما حضر، سأله: هل تحفظ شيئاً من الشعر عن مكة، يا بنيّ؟

فأجاب صالح: نعم، يا أبتي.

سعد: اسمعنا بعضاً من ذلك!

صالح: حبًا وكرامة، يقول الشاعر:

دَارُ التُّقَى، وَمُحَمَّدٌ مِنهَا أَتَى          

         والمَنْبَعُ القُدْسِيُّ مِنْها يَطْلُعُ.


وَكِتَابُ رَبِّي أَشْرَقَتْ آياتُهُ            

         في مَكَّةِ الأَمْجَادِ نُورٌ يَلْمَعُ .


بَلَدٌ إِلَيْها كُلُّ خَيْرٍ يَنْتَمِي                 

         وَالحَاكِمُ الجَبَّارُ عَنْهَا يُمْنَعُ .


وَالمَاءُ زَمْزَمُ، وَالحَطِيمُ مُبَارك        

           وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ آيٌ تَسْطَعُ.


وَالكَعْبَةُ الشَّمَّاءُ فِيهَا قِبْلَة             

          رَمْزُ الهُدَى لِلعَالَمِينَ وَمَنْبَعُ.


ناصر: الله.. الله..!

اختيار موفق، وشعر رائع، لمن هذه الأبيات؟

صالح: هي من قصيدة لشاعرٍ شاميٍّ يدعى: محمد رفعت زنجر..

سعد: قم يا صالح وأتني بالكيس الذي قلت لك أنه هدية لعمك أبي حاتم. 

صالح: أمرك يا أبي..

دخل صالح الدار وأحضر كيسًا  من القماش الفاخر ثم وضعه أمام والده،..

سعد يفتح الكيس بتأنٍ ويخرج محتوياته شيئاً فشيئاً.

ينظر إليه ناصر وقد علا وجهه السرور، ويقول: ما كل هذا يا أبا صالح..

سعد: هذا قليلٌ في حقك.

يخرج من الكيس مصحفاً ، وصندوقاً صغيراً من خشب مطعَمٌ بالفضة، فتحه سعد وأخرج منه مجموعة الطيب من دهن وخشب العود الهندي الفاخر. 

وعمامة صفراء شامية ثمينة..

ثم قدّم كل ذلك لصديقه ناصر.، ويقول معتذراً مرة أخرى، أرجو أن تنال هديتي المتواضعة رضاك. 

يأخذ ناصر الهدية، ووجهه يتهلل رضًى وفرحًا ..

ثم يقول مخاطبًا صديقه سعد : يا أبا صالح.. الحقيقة أني لا أجد من الشكر عبارة تقابل هديتك وحفاوتك، إلا أن أقول :جزاك الله خيراً..! لقد ذكَّرتني بقصة إسماعيل.

 فيرد سعد قائلا: ومن هو إسماعيل، وماهي قصته؟ 

ناصر: تلك قصة وفاء عجيبة.. 

لعله يتيسر لي أن أحكيها لكم فيما بعد إن شاء الله.

يتبع..



     [الحلقة:٦]

في الليلة التالية عندما اجتمع الصديقان رأى سعد وجه صديقه ناصر يشع بشاشةً وسروراً.. فبادره بالسؤال:

مالي أرى محياك مشرقاً الليلة يا أبا حاتم.

فيجيبه ناصر: ما الغريب في الأمر؟ 

سعد: لا غرابة في ذلك فأنت صاحب الطلعة البهية والأخلاق الندية يا سعيد. الكل يعرف ذلك منك.

ناصر: إن شاء الله، ولكن  تعلم يا أبا صالح انت تعلم أنه لا ينبغي للأخ الوفي مثلك أن يمدح أخاه وصديقه في وجهه، فلعل ذلك أن يضره من حيث لا يشعر، ومن حيث لا يقصد المادح. 

وتعلم أن بعض النفوس يستهويها المدح وتصاب بالعُجب، وعاقبة ذلك غير محمودة..

سعد: صدقت يا أبا حاتم، واعذرني فيما بدَر مني.

ناصر: لا عليك.. وإن أردت أن يطيب لنا الحديث، فلدي سؤال عسى أن أجد له جواباً عندك.

سعد: يسرني أن استمع إليك.

ناصر: بمناسبة الحديث عن مكة شرفها الله، فقد ذكرتني سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فلديّ بعض اللبس في نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وأرغب أن تبينه لي، فإنه يختلط عليِ نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة أخوال أبويه..

سعد: كماهو معلوم أن النبي صلى الله عليه٠ وسلم من بني هاشم من قريش ، وأخواله بنو زُهرة.

فوالد النبي صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.

وجدةُ النبي صلى الله عليه وسلم أم أبيه عبد الله: هي فاطمة بنت عمرو بن عائذ من بني مخزوم.

وأمُ جدهِ عبد المطلب: سلمى بنت عمرو من بني النجار من أهل المدينة.

و والدة النبي صلى الله عليه وسلم: هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.

يلتقي نسب أبيه وأمه صلى الله عليه وسلم في كلاب.

فأبوه: عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.

وأمه : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.

ناصر: تفضلت وأحسنت.. الحمد لله الآن اتضح لي الأمر، وعرفت أن أخوال عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو مخزوم من قريش.

وأخوال جده عبد المطلب هم بنو النجار من الخزرج ..

شكرا لك أيها المبارك على هذا البيان، ولعلي إن شاء إذا رجعت للمنزل اذكر هذه الفائدة الرائعة لأولادي،فلقد لمست منهم اهتماماً بأخبار نبينا صلى الله عليه وسلم وبسيرته العطرة..  

يتبع… 



            [ الحلقة:٧]

سعد: هل تأذن لي يا أبا حاتم بسؤال ؟

ناصر: تفضل أيها الأخ الحبيب.

سعد: هل كلمة اللَبس واللِبس معناهما واحد..؟

ناصر: كلا، فإن بينهما فرقا، فكلمة( لَبَس) بفتح اللام والباء، من الالتباس، وهو الاشتباه والخلط، تقول: التبس عليّ الأمر، تعني اختلط واشتبه وأشكل عليّ الأمر.

ومن ذلك قول الله تعالى: (وللَبَسنا عليهم ما يلبِسون).

وأما(لبِس) بكسر الباء، فهي من اللِبس، واللِباس من الثياب وما في معناها، كما في قول  الله تعالى:{يا بَني آدَمَ قَد أَنزَلنا عَلَيكُم لِباسًا يُواري سَوآتِكُم وَريشًا وَلِباسُ التَّقوى ذلِكَ ـ ..}.

ناصر: لكنني  أوَدُّ أن أعرف معنى كلمة (ريشاً) في هذه الآية.

سعد: الحقيقة حتى أنا لا أعرف معناها الآن ، فهل ترى أن نُرجئ الكلام عنها حتى نراجع التفسير في وقتٍ لاحق، وتذكر لنا قصة إسماعيل التي وعدتنا أن تقصها علينا؟

ناصر: حسناً.

في الحقيقة إنها قصةٌ هي مؤثرةٌ جدا، فيها صورة رائعة للوفاء، والأخوّة الصادقة.

سعد:  تفضل هذا الفنجان من القهوة، ثم احكي لنا قصة إسماعيل. 

ناصر: 

كان هناك  شاب متدين مهذب  من أسرة عريقة كريمة يسمى إسماعيل، وكان له صديق حميم يدعى سعيد.

عاش الصديقان فترة من عمرهما مليئة بالمودة والمشاعر الصادقة، والتناصح والتعاون على الخير..

ومن ذلك أن إسماعيل نصح سعيدًا، ذات يومٍ عن عادة سيئة كانت ملازمة له، فنظراً لمعرفة سعيد بإخلاص صديقه إسماعيل وثقته به بادر بإجابة طلبه ، وأقلع عن تلك الخصلة.

.....

ظل حالهما كذلك في وئامٍ وتآخٍ وسلامٍ حتى أصيب سعيد ذات مرةٍ بمرض ألزمه الفراش مدة طويلة ، وبذل والده كل ما يملك لعلاجه، وعرضه على الأطباء حتى أنه سافر به إلى بلد بعيد يلتمس له العلاج والشفاء. 

 وكان إسماعيل، طوال تلك المدة يتردد على بلدة سعيد فيزوره ويتفقد شؤون والديه، فإنه لم يكن لهما ولد سواه.

بعد أربع سنوات من ملازمة سعيد لفراش المرض توفاه الله تعالى، فحزن إسماعيل حزنًا شديدًا لوفاة صديقه ورفيق دربه سعيد، وكان في مقدمة المشيعين الذين حضروا للصلاة عليه ودفنه.

لم تنته الصداقة بوفاة سعيد بل بقي إسماعيل على سابق عهده في الوفاء والمودة لوالدي سعيد.. 

يكثر من زيارتهما، ويتفقد شؤونهما ويقضي ما يلزم لهما مما يحتاجان إليه..

 ظل على ذلك ولم يتغير مع طول الزمن.. حتى جاء يوم زواجه.

ففي ليلة الزفاف، والفرح ينشر أجنحته، والسرور يرفرف على الحضور من الرجال والنساء، وبينما كان إسماعيل يستقبل المهنئين ، إذا بأمه تناديه من قاعة النساء، وتطلب حضوره، أقبل إسماعيل فرحًا يظن أنه سيرى عروسه هناك. 

دخل إلى الموضع الذي فيه أمه، وإذا به يفاجئ برؤية امرأة عجوز جالسة مع أمه.. تلعثم إسماعيل وعقدت الدهشة لسانه بُرهة من الزمن، ثم ذرفت عينه الدمع الغزير، وذلك عندما أخبرته أمه بأن هذه العجوز  هي أم صديقه سعيد. 

حضرت للمشاركة في تهنئة صديق ابنها. 

وتجشمت عناء السفر لحضور زواجه، عند ذلك قال إسماعيل: أهلاً ومرحباً بالخالة العزيزة..

ردت أم سعيد التحية، وقدمت له التهنئة بالزواج ودعت له بالبركة والتوفيق.

بعد أن فرغ من تلك المقابلة عاد إلى مجتمع الرجال وقد تغير حاله من الفرح إلى الغمّ و الحزن بادٍ على محياه. 

فلما رآه أبوه على ذلك الحال، أخذه جانبًا، وسأله: ما بك يا بُني..؟

فأخبره الخبر. 

وقال: لقد تذكرت صديقي سعيداً رحمه الله عندما رأيت أمه.!

فهوّن عليه أبوه الأمر، وربت على كتفه، وأثنى عليه في حُسن صحبته لصديقه سعيد. 

ثم لم تمض إلا فترة وجيزة من الزمن حتى وصلت مجموعة من الضيوف وفي مقدمتهم والد سعيد، ومعه نحواً  من عشرين رجلاً من قرابته، حضروا مهنئين لإسماعيل صاحب اليد البيضاء في الوفاء لهم ولأبنهم سعيد رحمه الله..

في تلك اللحظة اختلطت مشاعر الأسرتين بين فرحة التهنئة بالزواج، وما قدموا من هدايا لإسماعيل، وبين تذكار الحزن المتجدد على سعيد..!

نعم، لقد كان إسماعيل مثلاً يحتذى في الوفاء لصديقه.

وقف معه طوال مدة مرضه، وظل يتعاهد أسرته بالرعاية والزيارة كأنه ابنٌ لهم. 

تلكم هي قصة وفاء إسماعيل.. ورد الجميل له من أسرة صديقه سعيد.

والآن هل تأذن لنا يا أبا صالح بالانصراف، فقد أحسست ببعض التعب؟

ناصر: في حفظ الله ورعايته. 

  يتبع…


  

[الحلقة:٨]

بعد أن صلى ناصر المغرب أقبل يحث الخطى نحو  دار سعد.. فلما وصل سلّم ونظر إلى الخلف، قبل أن يجلس.. 

ثم عاود الالتفات.. يمنة ويسرة باستغراب.

سعد: يرد السلام وهو مندهش من حال ضيفه ! 

ناصر! ماذا وراءك يا أبا حاتم؟ تنظر هنا وهناك.. أراك. مندهشاً، وقد رابني أمرك!

ناصر: ما شاء الله، تبارك الله.!

سعد: أحسنت فيما قلت. ما الذي دعاك لتقول ذلك.

ناصر: ما شاء الله ثانية، بارك الله لكم، أرى الصيوان جديدًا،  ومفروشًا بالسجاد الفاخر، ومزيّنًا بالأثاث الجميل، و..!!

سعد: آه، عرفت الآن سبب دهشتك.. هو ما ترى من الأثاث الجديد.

ناصر: نعم.. وبارك الله لكم فيما رزقكم..

عند ذلك قال سعد: الحقيقة يا أبا حاتم  أنت أخ حبيب وغالي لذا أحب أن أبشرك، لقد كانت لنا مزرعة قديمة انصرفت عنها مياه السيول.. وقل إنتاجها، ولكن الله قيّض لها من اشتراها بثمن طيب، فلما وسع الله علينا ، وسعنا على أنفسنا وأهلنا والحمد لله، فهذا سبب ما ترى. 

ناصر: تبارك الله ما شاء الله،  زادكم الله من فضله.

سعد: ولكن هل قرأت أو سألت عن معنى الكلمة التي كنا في المجلس السابق نبحث عن معناها.

ناصر: لعلك أخي تقصد معنى كلمة(وريشًا)  من سورة الأعراف. 

سعد: نعم.

ناصر: عذرًا ، لم يتيسر لي ذلك. وأنت؟

سعد: قرأت معناها في بعض التفاسير، وسأذكره الآن. 

ولكن اقترب، ودونك هذه الوسادة  فاتكأ عليها، وأدر القهوة الليلة، وكأنك أنت صاحب الدار. 

يواصل الحديث سعد: فقول الله تعالى:﴿يا بَني آدَمَ قَد أَنزَلنا عَلَيكُم لِباسًا يُواري سَوآتِكُم وَريشًا وَلِباسُ التَّقوى ذلِكَ خَيرٌ ذلِكَ مِن آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرونَ﴾

قوله: وريشاً: يعني مالاً، يقال: تريّش الرجل: إذا تموّل.

وقيل الريش: الجمال.

وقيل: المعاش، وقيل: متاع البيت. (التفسير الكبير للطبراني: ١٢٩/٣)

وقيل : الريش كل ماستر الإنسان في جسمه ومعيشته، يقال: تريّش فلان، أي صار له ما يعيش به. (معاني القرآن للزجاج:٢٦٦/٣).

ناصر: هل تأذن لي بكلمة يا أبا صالح؟ 

سعد: تفضل، وبكل سرور.

ناصر: أنت مريّش اليوم.

يبتسم! سعد ويقول: ما شاء الله سرعان ما فهمت كلمة وريشا..؟!!


يتبع.. 



  [الحلقة:٩]


ناصر: يا أبا صالح تعال، تعال واستمع لهذه القصة الطريفة التي حدثت لسعد!! 

سعد: من يكون سعيد هذا ياتُرى؟

ناصر: كأنك تظن أنه لا يوجد أحد يسمى سعدًا سواك.! 

استمع ما أقصه عليك وستعرفه بعد قليل.!

كان عثمان بنِ عفَّان رضي الله عنه ذات يومٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَمر به سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فسَلَّمْ عَلَيْهِ، فَمَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنِّه، ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ عَلَيه السَّلَامَ. يقول سعد: فلما لم يرد عثمان السلام أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ شَيْءٌ ؟ مَرَّتَيْنِ،

 قَالَ : لَا، وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ: لَا، إِلَّا أَنِّي مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ آنِفًا فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَمَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنِّي، ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، 

قَالَ : فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى عُثْمَانَ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ : مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَكُونَ رَدَدْتَ عَلَى أَخِيكَ السَّلَامَ ؟ 

قَالَ عُثْمَانُ : مَا فَعَلْتُ ؟

قَالَ سَعْدٌ : قُلْتُ : بَلَى، قَالَ : حَتَّى حَلَفَ، وَحَلَفْتُ،

 قَالَ : ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ ذَكَرَ، فَقَالَ : بَلَى، وَاسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، إِنَّكَ مَرَرتَ بِي آنِفًا، وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا وَاللَّهِ مَا ذَكَرتُهَا قَطُّ إِلَّا تَغَشَّى بَصَرِي وَقَلْبِي غِشَاوَةٌ..

قَالَ سَعْدٌ : فَأَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَنَا أَوَّلَ دَعوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ أَعرَابِيٌّ، فَشَغَلَهُ حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا أَشْفَقْتُ أَنْ يَسْبِقَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ، ضَرَبْتُ بِقَدَمِي الْأَرْضَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : " مَنْ هَذَا، أَبُو إِسْحَاقَ ؟ ". 

قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : " فَمَهْ ". 

قَالَ : قُلْتُ : لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنَّكَ ذَكَرْتَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ، فَشَغَلَكَ، 

قَالَ : " نَعَمْ، دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ : ( لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ ؛ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ ". 

(أخرج الحديث أحمد في مسنده. والترمذي دون ذكر القصة.)

ناصر: والآن ما رأيك يا أباصالح  فيما سمعت؟

سعد : قصة رائعة حقًا.

هل تأذن لي بأن استخرج بعض فوائدها ودروسها؟

ناصر: ومالي لا آذن وأنت أستاذنا وكبيرنا و..

سعد: أرفق، أرفق، ودعك من المديح، ألا تذكر ما سبق من النهي عن المديح؟

ناصر: بلى، بلى.. تذكرت، عفواً وصفحاً..

تفضل يا أخي. 

سعد: في هذه القصة التي حصلت لعثمان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما :

- قوة رابطة الأخوة بين الصحابة رضي الله عنهم، وصفاء قلوبهم، وشدة رغبتهم في العلم.

- وعرفت كذلك من الحديث أنّ (ذا النون) لقب نبي الله يونس عليه السلام، و(النون) يعني الحوت الذي ابتلعه نبي الله يونس عليه السلام. 

- وأن دعاء الكرب هو ما دعاء به يونس وهو في بطن الحوت، قال الله تعالى:{وَذَا النّونِ إِذ ذَهَبَ مُغاضِبًا فَظَنَّ أَن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَن لا إِلهَ إِلّا أَنتَ سُبحانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمينَ}.

وهذا الدعاء هو ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، وحثنا عليه في هذا الحديث…

 لقد طاب لنا الحديث الليلة فطال المجلس ، فهل ترى أن نتوقف هنا؟

ناصر: لا بأس، غدا نلتقي إن شاء الله.

يتبع… 



      [ الحلقة:١٠]


ذهب سعد في في اليوم التالي إلى دار صديقه ناصر، قبل موعد المجلس المعتاد.

 ولما كان غير بعيد نادى: يا أبا حاتم!

وكان ناصر وقتئذٍ في داخل داره يتهيأ للذهاب إلى دار سعد للمجلس المعتاد، ولما سمع الصوت، أجاب: نعم. من ينادي؟

سعد: أنا أبو صالح.

يخرج ناصر مسرعًا ويرحب بضيفه: أهلاً ومرحباً!

كنت أريد أن أسبقك فأتشرف بزيارتي لك ، ولكنك سبقتني. سبّاق أنت دائمًا إلى المعالي: يا أبا صالح.!

تفضل هنا..

بعد أن رحب ناصر بصديقه سعد. 

قال: أستأذنك لحظة يا أبا صالح..!

سعد: تفضل.

يدخل ناصر داره ويعود مسرعاً بالقهوة والشاي وشيء من التمر واللوز.. 

ويرحب بضيفه مرة ثانية.

يتناولان القهوة والشاي.. 

...

يلاطف ناصر ضيفه، فيقول: من حسن حظنا بزيارتك الميمونة يا أبا صالح  أن لدينا بعض ما يجمل بنا تقديمه لك، وإكرامك به..

لكن سعدًا منذ أن جلس وهو ملازم للصمت..

تنبّه ناصر لحال صديقه الحميم، 

فسأله بلطف: سعد.. هل هناك أمر يضايقك، هل أنت مرهق.. هل..؟

سعد: لا، لا شيء من ذلك كله.

ناصر: لابد أن هناك أمرًا غير معتاد. فلم تزرني قبل اليوم والمجلس عادة في دارك، وألمح في وجهك ما يدل على أن شيئا مهما قد حدث..

سعد: يتنفس الصعداء ثم يقول: الحقيقة..

هنالك أمر أحببت استشارتك فيه..

ناصر: تفضل..

سعد: قد عزمت على الزواج من امرأة صالحة من بيت طيب، وأريد أن يكون أمر الخطبة سرًا حتى تتم الأمور كما ينبغي. 

ناصر: ابشر!

وأعدك أن لا أذكر ذلك لأحد، بل وأشجعك على ذلك، فالله تعالى يقول: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورباع..}. 

ولكنني أوصيك بالعدل، ثم لك مني دعوة مقدماْ: بارك الله وبارك عليك وجمع بينكما في خير. 

تهلل وجه سعد.. ثم قال: جزاك الله خيرا من أخ وفيٍ كريم.

وللتذكير بحفظ السر أجد الوقت مناسبا لهذه الحكاية.

ناصر: اتحفنا بها يا عريس!

سعد: يُحكى أن قوماً تذاكروا حفظ السر عند الأمير عبد الله بن طاهر ،فأنشأ يقول:

ومستودعي سرًا تضمنت سره        فأودعته من مستقر الحشا قبرا.

فقال ابنه عبيد الله وهو صبي:

وما السر في قلبي كثاوٍ بحفرةٍ       لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا

ولكنني أخفيه عني حتى كأنني     من الدهر يومًا ما أحطت به خُبرا.

ناصر: عُلم..عُلم..لك ما تريد يا أبا صالح. 

يستأذن سعد وينصرف مكرمًا مسروراً.

يتبع


                            

       الفصل الثاني


         [الحلقة:١١]


بعد عودة سعد من زيارته لصديقه ناصر.. 

بدأ يرتب أمور زواجه الثاني..

 وكانت مراسم الزواج متواضعة، ومظاهره متوافقة مع السنة، فلا إسراف، ولا تبذير.. ولا معاصي.. وذلك ما يبشّر بكونه عرساً مباركاً إن شاء الله.


في ليلة الزفاف كان الفرح ظاهراً على وجوه الجميع، والسرور قد غمر قلوب أصحاب العرس من الأسرتين والضيوف الحضور..


اغتنم ناصر المناسبة فأنشد هذه الأبيات تعبيراً عن فرحه بزواج صديقه سعد:

جئنا سرورًا بالزفاف وأهله                                   

  وحفاوةً بحبيبنا المتزوجِ

نهدي إليك سلامَنا وكأننا                                   نهدي إلى ملكٍ أغرَّ متوجِ

ناديتمونا فابتهجنا بالندا                   

 وانسابتِ الأرواح للصوتِ الشجي

فتقبلوا باقاتِ حب صادقٍ           

     من نرجس وشقائقٍ و بنفسجِ

ها نحن نشدو بالنشيد موقعًا                    

       لينير في هذا المساء المبهجِ

يا رب تمم أنسه في أهله                             لينالَ فيهم ما يحب ويرتجي.

… 

استحسن الحضور القصيدة! 

وأشادوا بها حتى أن بعضهم كان يردد أبياتها معجباً بها.

مضت ساعات الحفل سريعةً مفعمة بالسرور عامرة بالتهاني والتبريكات.

 وقبيل الختام اقترب سعد من صديقه ناصر: فهمس في أذنه : هل أنت من نظم تلك الأبيات الرائعة؟

ناصر: لا لست أنا.

سعد: تُرى من يكون؟

ناصر: زيد.

سعد: من هو زيد..؟

أنا لا أعرف أحدًا من قريتنا يدعى زيدًا.

انشغل سعد برهة من الوقت، ثم التفت وإذا به يرى صديقه ناصر قد غادر المكان، ولم يكشف له عن شخصية الشاعر المبدع المدعو زيداً..

يتبع



          [الحلقة:١٢]


انقطع الجميع بعد زواج سعد عن حضور المجلس عدة أيام.

أما أسرة سعد ففي صبيحة اليوم التالي لعرسه فقد أعدت زوجته الأولى شيماء أم صالح طبقًا شهياً من البر والسمن والعسل والتمر مما يحبه زوجها سعد، وطلبت من ابنها صالح مرافقتها إلى بيت أبيه الجديد..

فلما وصلا أستأذن صالح على أبيه، ثم قال: أمي بالخارج.

فخرج سعد ورحب بزوجته أم صالح، قائلاً: أهلاً ومرحباً بأم صالح. حياكِ الله.!

واستقبلتهما الزوجة الثانية زيتب استقبالاً طيباً، يدل على حُسنِ خلقها، وطِيب معدنها. 

ثم قالت أم صالح: بارك الله لك وعليك وجمع بينكما يا أبا صالح في خير..

شكر سعد زوجته شيماء على تهنئتها والطعام الذي صنعته.. وجلس الجميع على المائدة في أحسن ما ترى من المودة والصفاء.

....

وبعد أن فرغوا من الطعام وتحدثوا ساعة، استأذنت أم صالح وودعت زوجها.. وانصرفت هي وابنها..

بعد ذلك قالت زينب لأبي صالح: لقد سمعت عن حُسن أخلاق أم صالح، وما رأيته من كرمها ووفائها معك ما يندر مثاله اليوم في النساء، فلله درها، فأستوص بها خيراً..

فرد أبو صالح قائلاً: هذا من فضل الله، فله الحمد.

 وأشكر لكِ حُسن استقبالك لها وثنائِكِ عليها ووصيتكِ بها.

يتبع


      [الحلقة :١٣].


بعد أن مضت على الزواج بضعة أيام، وفي أمسية رائقة حضر ناصر المجلس كالمعتاد وكان في استقباله صديقه الحميم سعد..

رحب به.. وأكرمه.. وقدّم القهوة وأنواعًا فاخرةً من الحلوى..

ناصر: أسأل أم أسكت، يا أبا صالح؟ 

سعد: سل عما تريد يا أخي.

ناصر : مُذ متى تقدم العرب الحلوى مع القهوة للضيف؟ 


سعد: يبتسم.. ثم يقول: لا بأس.. المعذرة اليوم خالفت تقاليد العرب عمدًا..

بينما كان يتكلم ،  وقد قضم ناصر ما يزيد عن ثلاث قطع من الحلوى. 

سعد: هيه..!! يا أبا حاتم.. رفقاً بالحلوى، أقصد، بأسنانك.. فأنت عربي ولا يصلح لك إلا التمر.."!!

يضحك ناصر وفوه ممتلئٌ بالحلوى، ويقول: ولا يكاد يتبين كلامه: لابأس بمخالفة العادات أحياناً، خصوصاً إذا كان ذلك في منزل صديقٍ مخلصٍ مثلك، حديث عهدٍ بعرس. 

لا يزال سعد مستغرقاً في الضحك من حسن تخلص ناصر من ورطته، حين انتقد الحلوى فلما ذاق طعمها هجم على الطبق بشراسة..

ثم يقول ناصر بعد أن قضى على ذلك الطبق..

جئتك يا أبا صالح أشكو ما حدث لي مع أحد جيراني.. 

سعد:خيراً إن شاء الله! 

ناصر: جارنا فلان- لا أريد أن أسميه- لقد بلغ به الطمع وسوء الجوار أن اقتطع قطعة من مزرعتي و أضافها إلى مزرعته.

سعد : ثم ماذا؟

ناصر: غلبني عليها فترافعنا للقاضي.

سعد: وحكم لك؟

ناصر: كلا.!

سعد: كيف، وما الذي جرى.؟

ناصر: لم يقتنع القاضي ببينتي وحكم له باليمين.

سعد: سبحان الله! هذا الكلام أشبه بالمحال.  

ناصر: هذا ما حصل.

سعد: لا عليك، سيعوضك الله خيراً منها.

ومن حسن التوفيق يا أباحاتم أن هذا يذكرني بحادثة مثلها جرت لسعيد بن زيد رضي الله عنه، ولك به أسوة.

ناصر: و من هو ذا سعيد؟ وماذا فعل .؟

يتبع..


        [ الحلقة :١٤].

يتواصل الحديث بين سعد وناصر.. 

سعد: هل تعرف سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، يا أبا حاتم؟

ناصر: نعم، ومن ذا الذي لا يعرفه ، هو علم من الأعلام، ومن السابقين إلى الإسلام، وأحد المبشرين بالجنة، وابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. 

ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب له بسهمه وأجره يوم بدر هو وطلحة؛ لأنهما كانا غائبين بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق الشام.. وكانت له رضي الله عنه مواقف حازمة في الجهاد، وله اليد البيضاء يوم اليرموك.

سعد: نعم، نعم، هو كما تقول.

إذاً فاستمع لهذه القصة التي حصلت له رضي الله عنه، فإنها شبيهة بقصتك مع جارك.

يقول: سعيد بن زيد رضي الله عنه: "أَنَّهُ خَاصَمَتْهُ أَرْوَى - امرأة- فِي حَقٍّ زَعَمَتْ أَنَّهُ انْتَقَصَهُ لَهَا إِلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ سَعِيدٌ : أَنَا أَنْتَقِصُ مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا ؟ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ".[البخاري:٣١٩٨]

ناصر: سبحان الله!  ما أعظم ورع الصحابة وتقواهم.

ولقد سمعت أن هذه المرأة أصابتها دعوة سعيد، فبينما كانت تمشي في أرضها إذا وقعت في حفرة أو بئر فهلكت.

سعد: وقصتك تذكرني: بحديث آخر وإن كان في مسألة أخرى ، وهي الظلم..

فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ - مهاجري الحبشة- قَالَ : " أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ؟ ". 

قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ : سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ ، إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. 

قَالَ : يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ".[سنن ابن ماجه:٤٠١٠، وأخرجه ابن حبان:١٥٥٤ دون ذكر القصة]

ناصر: تذكرت يا أبا صالح المثل القائل:" كما تدين تدان". فهل تعرف قصته؟ 

سعد:  لا والله، ولكن هل نرجئ بقية الحديث إلى الليلة المقبلة؟

ناصر: أظن هذا أفضل، فإني أرى النعاس يداعب عينيك..

 ينصرف الجميع.. 

يتبع… 

    


       [ الحلقة :١٥].


عندما حضر ناصر إلى المجلس  في الليلة التالية، بادر بطلب الجواب عن السؤال عن عبارة:  " كما تدين تدان".

فقال سعد: ياعزيزي لهذا المثل قصة. 

وهي: أن الحارث بن أبي شمر الغساني اغتصب ابنة خويلد بن نوفل الكلابي فأنشد خويلد يخاطب الحارث قائلا:

يا أيها الملك المخوف أما ترى

         ليلاً وصبحًا كيف يختلفانِ

هل تستطيعُ الشمسَ أن تأتي بها

        ليلاً، وهل لك بالمليك يدان

يا حارِ أيقن بأن ملكك زائل

         واعلم بأن كما تدين تدان.

أي: كما تفعل يُفعل بك، وتجزى بما عملت.

ناصر: أحسنت يا أبا صالح وبورك فيك. 

ويحضرني في هذا المعنى موعظة وجيزة لبعض السلف، يقول فيها: " البر لا يبلى، والإثم لا يُنسى والديان لا يموت، اعمل ما شئت فكما تدين تدان".

سعد:  يا أبا حاتم هل تعلم  إلى من تنسب هذه الموعظة، ومن هو قائلها؟

ناصر:  لا أذكر الآن. لكن هل تعرفه أنت فتتكرم علينا بالإفادة.؟

سعد:  أظنه، الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،ولست على يقين من ذلك.  

في تلك اللحظة التفت ناصر وإذا به يرى كتاباً بجوار سعد، فسأله: ما هذا الكتاب الذي بالقرب منك يا أبا صالح؟

سعد: مجلد من مسند الإمام أحمد بن حنبل..

ناصر: هل تتحفنا منه بقراءة ما تيسر من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم 

 سعد: حبًا وكرامة.

 شرع سعد في القراءة، وناصر منصت في أدبٍ وتوقيرٍ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

فتح سعد الكتاب، وقلّب بعض صفحاته حتى وقع نظره على حديث عجيب، فأخذ في القراءة.. قائلاً:

عَنْ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي، فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ، قَالَ : أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ ؟ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ الله إِلَيَّ ؟ فَقَالَ : يَا عَجَبِي، ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ. فَقَالَ الذِّئْبُ : أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ ؟ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ، يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ. قَالَ : فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ : الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي : " أَخْبِرْهُمْ ". فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ ". ( المسند رقم:١١٧٩٢)

ناصر: سبحان الله.. آمنت بالله وصدقت رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل أخرج هذا الحديث أحد غير الإمام أحمد يا أبا صالح؟ 

سعد: نعم أخرج الترمذي في سننه نص الحديث دون سياق القصة.(برقم:٢١٨١)وقال: حديث صحيح.

ناصر: وهل وردت أحاديث أخرى في كلام الحيوانات للأنس؟ 

سعد: هذا سؤال مفيد وجيد.. ولكن كما تعلم قد طال بنا الوقت ، فلنرجئ ذلك للمجلس التالي.

ناصر: كما تحب..الحقيقة لقد ذهب عني ما كنت أشعر من الضيق بسبب مخاصمتي مع ذلك الجار.. وأيقنت أن لنا موقفًا بين يدي مالك يوم الدين.. فطابت نفسي.. والآن استودعك الله.. 

يتبع… 


      [ الحلقة :١٦].


حضر ناصر اليوم مبكراً على غير عادته وأحضر معه كراساً وقلماً، كأنما هو من تلاميذ المدرسة الإبتدائية.. 

ثم بادره سعد بالسؤال: ما شأن هذا الكراس والقلم معك اليوم يا أبا حاتم؟

ناصر: بعد أن عدت إلى منزلي بالأمس قصصت حديث كلام الذئب مع الراعي على زوجتي فاستغربت ذلك ..وحصل لديها بعض الشك في صحته.

سعد: ليس بمستغرب منها ذلك، فالقصة غريبةً فعلاً.

ولكن الواجب ياصاحبي على المسلم إذا وقع في نفسه شكٌج أن يسأل ويتثبت ولا حرج عليه.

والمهم أن يصدِّق ويسلّم ولا يُنكر ما صح من أخبار النبي صلى عليه وسلم..

ناصر: صدقت وأحسنت.

سعد: وما شأن الكراس والقلم لم تخبرني عنهما بعد. 

ناصر: أريد أن أنقل الحديث وأكتبه لتقرأه زوجتي فتطمئن.

سعد: هذا أمر طيب.

قام ناصر بنقل حديث الراعي والذئب.. وما إن فرغ من ذلك حتى قال سعد: واصل الكتابة يا سعيد، فسأملي عليك ما طلبت في المجلس السابق من شواهد الحديث..

ناصر: لعله تيسر لك ذلك؟. 

سعد: نعم، والحمد لله. 

ناصر: توكلنا على الله..

سعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ، فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ : مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي ؟ 

وَبَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا ؛ فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَتْ : إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَلَكِنِّي خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ ". 

قَالَ النَّاسُ : سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" فَإِنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ".

ناصر: سبحان الله ! وأنا أومن بذلك.

لو تكرمت يا أبا صالح من أخرج هذا الحديث؟

سعد:[البخاري:٣٦٦٣،ومسلم:٢٣٨].

وأزيدك من ذلك الخير ، فهل سمعت يا أبا حاتم أن حجراً تكلم؟ 

ناصر: كلا! ولكن إن كان خبره في الحديث فأنا مؤمن به.

سعد: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن." [ مسلم:٢٢٧].

ناصر:  وقد سمعتُ أن جذع نخلة حَنّ، وسمع الناس صوته، فهل ذلك صحيح؟

سعد: نعم، فعن جابر رضي الله عنهما قال : كان جِذع نخلة بالمسجد، يقوم إليه صلى الله عليه وسلم للخطبة، فلما وضع له المنبر سمعنا للجِذع مثل صوت العِشار، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه". [البخاري:٩١٨]. 

يا أبا ناصر! هل تعلم ماهي العِشار؟

ناصر: لا والله! 

سعد: يقول الله سبحانه :{ وإذا العِشارعُطّلت} 

العِشار: هي النوق الحوامل إذا كانت في الشهر العاشر..

وعنه أيضا: لما دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنبر ، فصاحت النخلة صياح الصبي ، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمّه إليه ، تئِنُّ أنين الصبي الذي يُسكّن . قال" كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.[البخاري:٣٥٨٤]

وبعد أن سمع ناصر  كل هذه الأحاديث كتبها في كراسته، ثم جمع ثيابه وبادر بالنهوض. 

سعد: إلى أين..؟ 

خيراً.. ما بك يا رجل؟

خرج ناصر ولم يلتفت لسعد.. حتى أنه لم يستأذن.

سعد: يتمتم، لابد أن يكون له عذر..

اللهم اجعله خيراً..

يتبع..


        [ الحلقة :١٧].

 أصيب سعد بوعكة صحية، فزاره الأقارب والجيران، إلا أن أحد أقاربه لم يزره مع علمه بمرضه، ولقد كان لتخلفه عن الزيارة وقع شديد في نفس سعد، غير أنه صبر على جفاء ذلك القريب، ولم يذكر ذلك لأحد.

ومن عجائب الأمور أن صديقه الحميم ناصر لم يزره أيضاً، فقد سافر لقضاء بعض شؤونه الخاصة.

لكنه ما إن عاد من السفر وعلم بمرض صديقه حتى بادر بزيارته قبل أن يصل إلى أهله.

ولما وصل إلى دار ناصر أستأذن وسلّم وسأل عن حالته، وشكواه، فسمع سعد صوته وعرفه، ولكنه كان منهكاً من شدة المرض.

 جلس ناصر بجوار السرير، ثم وضع يده على رأس سعد وأخذ يرقيه ويقول: بسم الله، بسم الله، بسم الله.. أسأل العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك..(كررها سبع مرات.).

ثم قال: اللهم رب الناس أذهِب الباس واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاءً لا يغادر سقماً.

وبعد فراغه من الدعاء أستأذن وانصرف والحزن يعتصر قلبه إذ لم يكن حاضراً منذ بداية المرض، وإن كان معذوراً بسبب سفره.

ولما وصل داره، كان في استقباله زوجته أم حاتم التي رحبت به وحييته، فلم يرد التحية، وظل واجماً، سارح الذهن فارتابت في أمره، فهذه أول لحظة لدخوله منزله بعد عودته من السفر، فانصرفت عنه وهي في حيرة من هذا الأمر..

     يتبع… 


              [ الحلقة :١٨]

ثم ذهبت هند زوجة ناصر مسرعة  إلى بيت أخت زوجها علياء، وأخبرتها أن أخاها قدٍم من السفر، ولما دخل البيت، لم يسلم، ولم يتكلم.

عادت معها إلى البيت، ولما وصلتا إلى فناء الدار رأى ناصر أخته فاستقبلها بحفاوة وترحيب.

فاغتنمت زوجته الفرصة فحيته مرة ثانية فرد تحيتها، وسألها عن حالها وعن الأولاد.

فقالت له: مالك يا أبا حاتم عندما دخلت قبل قليل لم تتكلم؟

فقال لها: لا بأس عليك، للتو وصلت من دار صديقي سعد، وقد علمت بمرضه عندما اقتربت من القرية، فعرّجت على منزله، فزرته، وتأثرت لمرضه فذلك سبب ذهولي عندما وصلت إليكم.

..

 مرت على ذلك عدة أيام وسعد لازال في مرضه. 

 وذات يوم بينما كان ناصر مع أهله وأخته علياء وأولاده في جلسة أسرية ماتعة، كان من أجمل ما دار فيها أن زوجته رغبت أن يذكر لهم كلمة موجزة عن النصيحة. 

قائلة له: اجعل لنا نصيباً من فوائد مجلسكم مع صديقك أبي صالح شفاه الله.  

فرد ابو حاتم: موفقة دائما أنتِ يا أم حاتم، فكلنا نحتاج للنصيحة.. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة".

النصيحة حق للمسلم على أخيه، فمتى رأى منه تقصيرًا في طاعةٍ الله، أو وقع في معصية.

فإن فعل منكراً وجب نهيه عنه، وإن ترك معروفاً أمره به بالرفق ، وبجميل العبارة، وأن يشفع ذلك بصدق الدعاء له بالخير.

 وإن استشاره في أمرٍ فقد وجب عليه نصحه. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ ". فذكر منهاقوله:"وإذا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ ".   ( مسلم:٢١٦٢). 

ثم إن علياء أخت ناصر شاركت  بالقصة الطريفة التالية، فقالت: قرأت حديثاً عجيباً عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: "أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، ..فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ :

وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا                                                    

     أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي.

فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ ؟ 

قَالَتْ: خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ، فَسَقَطَ مِنْهَا، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا، فَأَخَذَتْهُ، فَاتَّهَمُونِي بِهِ، فَعَذَّبُونِي..، فَبَيْنَا هُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ برؤوسنا، ثُمَّ أَلْقَتْهُ، فَأَخَذُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ : هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ".[صحيح البخاري:٣٨٣٥]

وبينما كان الجميع في محادثتهم تلك إذ أقبل صالح بن سعد.

فلما رآه ناصر، مقبلاً من بعيد عرفه، فقال: ما جاء صالح الساعة إلا لأمر مهم، وسرعان ما تغيرت ملامح وجهه وتصبب عرقه، وما أن وصل صالح حتى بادره ناصر بالسؤال: كيف حال أبيك..؟

 أخبرني، هل هو بخير..؟

يتبع....


            [الحلقة :٢٠]

ظل صالح ينظر إلى ملامح وجه ناصر والدهشة تكاد تعقد لسانه لما يرى من تأثر صديق أبيه!!.

صالح: يا عم! أبشر، فإن أبي بخير، و الحمد لله، يقرئك السلام، قد شفاه الله وعافاه، وهو في انتظارك الليلة في المجلس..

ناصر: بل الآن.. هيا بنا يا صالح..

خرج من داره ولم يلتفت إلى أهله أو يخبرهم أنه ذاهب إلى دار سعد.

وصل صالح إلى دارهم وفي صحبته صديق أبيه ناصر.. وما أن رآه سعد، حتى قام إليه مرّحِباً، وأقبل ناصر إليه مهرولاً.. فلما تقابلا اعتنقا.. وحيّا كل منهما صديقه.. ثم أخذا مكانهما من المجلس.. وبدأ سعد بالكلام: أشكر لك جميل معروفك معي يا أبا حاتم وزيارتك لي، حيث بلغني أنك قدمت من سفرك مباشرةً قبل أن تصل دارك !

وسمعت دعاءك ورقيتك لي وأنا على فراش المرض، ولكن المعذرة يا أخي فما كنت استطيع الكلام ساعتئذ.

طأطأ ناصر رأسه تواضعاً.. وقال: إنما قمت ببعض الواجب، بل وأقلّه، وحقك عليّنا يا أبا صالح أكبر من ذلك، ولا زال اعتذاري عن التقصير في حقك قائماً..

هنا تهلل وجه صالح بن سعد لِما سمع من حسن الصحبة والمحبة والوفاء لأبيه من صديقه ناصر. فقام من المجلس مسرعاً.. ودخل الدار.. وأحضر سيفاً دمشقياً صقيلاً، له نصاب من قرن الغزال وعليه فُصٌ من العقيق اليماني الفاخر، وغمده موشًى بزخارف فضية بديعة.

 ارتاع سعد لما رأى السيف في يد ابنه، فقال: ما هذا الذي أرى بيدك يا بني؟

فقال: صالح: إنه سيفي.

فقال والده: اعرف ذلك ، ولكن لماذا أخرجته، وماذا تريد به ؟

قال صالح بكل تلطفٍ وأدبٍ: عرفت صدق صحبة صديقك العم ناصر، فأردت مكافأته على بعض معروفه وصدق مودته لك. فهذا سيفي تفضل يا أبي وقدمه هديةً مني، لعلنا نرد بذلك بعض جميله وفضله علينا.

ثم وضعه في حِجر أبيه، فقدمه أبوه هدية لصديقه ناصر تقديراً لمواقفه النبيلة وعرفاناً بجميله.

فلم يكن لناصر بُدٌ من قبوله.. والمبالغة في شكر سعد وابنه صالح.

ثم انفضّ المجلس عقُب ذلك بيسير. 

يتبع.. 


             [ الحلقة:٢٠].

مضت على حادثة إهداء السيف لناصر قرابة أسبوعين، فاستشار ناصر أخته علياء وكانت سيدة عاقلة كريمة يعتمد عليها في كثير من الأمور، استشارها في رغبته إكرام صديقه سعد، فرّحبت بالفكرة وشجعته على أيضاً زوجته أم ناصر. 

 فقام ذات ليلة بإعداد مأدبة كبيرة بمناسبة شفاء صديقه سعد، ودعا بعض المعارف والجيران..

حضر الجميع وفي مقدمتهم سعد ضيفه الكبير الذي أقيمت المأدبة على شرفه..ومن الجيران عبد الرزاق وعابس.. 

رحب ناصر بضيوفه أجمل ترحيب، وسرّ بحضورهم غاية السرور.

فلما اكتمل الحضور طلب ناصر من أحد الحاضرين أن يتولى إدارة المجلس بحديث عام ومفيد ريثما يجهز الطعام.. 

وقع الاختيار على عبد الرزاق خال صالح، وهو رجل غزير المعرفة، حسن المحاضرة.

افتتح كلامه بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم حلّق بهم في أجواء ثقافية بديعة. وكان من مستحسن كلامه، أن تلا عليهم قول الله عز وجل : "[خذ العفو و أمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين].

قال بعض أهل العلم: في هذه الآية العظيمة على وجازتها أمرٌ بجميع مكارم الأخلاق بأسرها، لأن في العفو صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين . 

وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الرحم ، وصون اللسان من الكذب، وغض الطرف عن المحرمات ، والتبرؤ من كل قبيح، لأنه لا يجوز أن يأمر بالمعروف ، وهو يلابس شيئاً من المنكر . 

وفي الإعراض عن الجاهلين ، الصبر و الحلم وتنزيه النفس عن مقابلة السفيه ".(تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، ص: ١٢)

ثم انتقل بهم إلى الشعر فأنشدهم أبياتاً من قصيدة معن بن أوس المزني في صلة الرحم،

اختار لهم منها هذه الأبيات:

وذي رحم قلمت أظفار ضغنه              

   بحلمي عنه وهو ليس له حلم

يحاول رغمي لا يحاول غيره                 

 وكالموت عندي أن يحل به الرغم

صبرت على ما كان بيني وبينه               

وما يستوي حربُ الأقاربِ والِسلمُ

ويشتم عِرضي في  مغيبي جاهداً               

 وليس له عندي هوانٌ ولا شتمُ.

إذا سِمتَهُ وصْلَ القرابة سامني                                                    قطيعتها، تلك السفاهة والإثمُ

ويسعى إذا أبني لهدم مصالحي           

 وليس الذي يبني كمن شأنُه الهدم

يود لو أني معدمٌ ذو خصاصةٍ            

   وأكره جَهدي أن يخالطه العَدَمُ.

فما زلت في لِيني له وتعطفي         

     عليه كما تحنو على الولدِ الأمُ

وخفضي له مني الجناحَ تألفاً                  

 لتدنيه مني القرابة والرحم. ..إلخ


لم يكن المتحدث يعلم بماحل بأحد الضيوف من جراء هذه الموعظة بالآية الكريمة، وبالقصيدة، لقد كان وقع ذلك شديداً على نوفل قريب سعد الذي لم يزره في مرضه، وقد كان حاضراً. فعندما طرقت سمعه تلك الموعظة نكّس رأسه.. وتغيّر لونه خجلاً ، وكأنه المقصود بذلك دون غيره. ولكن سعدًا كان أكرم من ينظر إلى نوفل لئلا يلمس منه عتب أو شماتة.

بعد ذلك أستأذن ناصر ضيوفه قبيل تقديم العشاء، فقال لهم: وقد أحضر السيف الذي أهداه له صالح بن سعد..

يتبع ...


            الفصل الثالث

          [الحلقة :٢١]

قبيل تقديم العشاء، أستأذن ناصر ضيوفه فقال: 

أيها الضيوف الكرام: لقد تشرفت الليلة بحضوركم وزاد أُنسنا بالاجتماع بكم.. فأكرر التحية بكم..

أيها الجمع الكريم نحمد الله على نعمه علينا ، ومنها شفاء أخينا الحبيب.. سعد.!

وبهذه المناسبة يسرني غاية السرور أنا أقدم هديةً متواضعةً مني لأخي سعد!!

طالباً منه قبولها قبل أن يراها..!

سعد: قبلت، وأسأل الله أن يعيننا على مكافأتك..!

عند ذلك أخرج ناصر السيف، وقدّمه هدية لصديقه الغالي سعد..

فلما رآه سعد.. شق عليه أن يتراجع عن قبول الهدية.

ولكنه أكبرَ شهامة صديقه ناصر ووفاءه..

فقام سعد ووجه كلامه للحضور من الضيوف، وأهل الدار من قرابة صديقه ناصر:

قائلا: أيها الأحبة!  الهدية التي وافقت على قبولها تلبية لطلب أخي ناصر وهي هذا السيف كما ترون، هل تعلمون لماذا طلب مني أبو حاتم الموافقة على قبول الهدية قبل رؤيتها؟

أحد الحضور يقاطعه ويطلب الأذن له بالتحدث.. فيؤذن له.

فيقول:

مهما يكن سبب الهدية، فالواجب أولاً أن نعلم أن الهدية مما يوثق عُرى الأُخوّة والمحبة بين المؤمنين.

وقد حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فمما جاء في شأنها: "تهادوا تحابوا".

فيا أخ سعد مهما كان سبب الهدية فإن من الواجب عليك قبولها والدعاء لمهديها.. والهدية بقيمتها المعنوية وليست بالقيمة المادية.. فهذا ما أردت التنبيه عليه..

الحضور، أثابك الله.. أصبت وأحسنت.!

سعد: إن هذا العمل الرائع دليل شهامة ناصر وكرمه.. وكلنا نعلم ذلك ونعرفه عنه، ولكنكم لا تعلمون قصة اختياره لتكون هديته هذا السيف؟!!  

.. يتبع


 [ الحلقة :٢٢]

سعد يواصل كلامه فيقول:

أيها الحضور الكرام : إن أصل هذا السيف هو لأبني صالح، أهداه للأخ ناصر إكراماً له عند زيارته لي بعد شفائي من مرضي والحمد لله، فقبله.

ولما عرف مكانة السيف، لم تطب نفسه أن يمتلكه ، فاغتنم هذه المناسبة فرده ولكن في صورة الهدية التي ترون، وذلك إيثاراً منه وكرماً.!

عند ذلك قام رجل من طرف المجلس يدعى رويشداً فابدأ امتعاضه من رد الهدية  فقال: "الهدية لا تُهدى".

و وافقه بعض الحضور على قوله. وكان في المجلس شيخ كبير السن والقدر فقال: هل تسمعون فأتكلم؟ فقال الجميع نعم، وبكل محبة وتقدير.

فقال: هذه الجملة" الهدية لا تُهدى"، لا أصل لها، ولا دليل عليها، ففي السُنة أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يهدون للنبي صلى الله عليه وسلم اللبن، والطعام، فيُشرك أهل الصفة معه في هديته، ويهدي بعض الصحابة اللحم حتى يدور رأس الذبيحة على أكثر من بيت.. في أخبار كثيرة معروفة.. 

ثم إن الهدية إذا صح تملكها صح بيعها و أهداؤها.

عند ذلك قال :ناصر لضيوفه: وقد مُدت موائد الطعام.. تفضلوا حياكم الله!

جلس الجميع لتناول الطعام وجلس الشيخ ظافر إلى جانب سعد على مائدة واحدة وجلس معهم المضيف ناصر..

فقال الشيخ ظافر مداعباً سعداً: هل رأيت كيف وقفت مع صديقك.

فابتسم سعد. وقال: الحقيقة أنا مُحرج غاية الحرج من قبولي هذه الهدية، ولولا علمي أن أبا حاتم  سيغضب إن رددتها لفعلت ذلك.

ثم قال الشيخ ظافر : تهديني السيف أو تبيعني إياه..

فقال: سعد: "الهدية لاتُباع ". 

فرد عليه الشيخ : قد أخطأ من قال ذلك.

فقال سعد: هذه الهدية أهداها لي أحب الناس إليّ وأصدقهم إخاءً ووفاءً لن أفرط فيها..

انتهى معظم الحضور من تناول الطعام، فحمدوا الله، ثم شكر الجميع مضيفهم أبا ناصر، وودعهم بحفاوته وبشاشته المعهودة..

يتبع.. 


         [ الحلقة :٢٣]

بعد وصول سعد إلى داره.. وجد زوجته شيماء في انتظاره، سلم وجلس.

ظلت شيماء واقفة تنظر مشدوهة إلى زوجها، ثم قالت:

أبا صالح ما هذا الذي أراه معك؟

أخرج سعد السيف من غمده ثم استعرضه أمامها.. وهي لاتزال في دهشتها..

ألا تجيب ما هذا السيف؟

فيجيبها سعد: هل رأيتِ مثله قبل اليوم ياشيماء؟ 

فأجابته قائلةً : من أين لك؟،

هل اشتريته؟ أم استعرته؟

سعد: ألم تعرفي هذا السيف بعد؟

أم صالح: أظنه سيف صديقك ناصر الذي أهداه له ولدي صالح.

سعد: نعم ، هو، هو.

أم صالح: فما الخبر إذن؟

سعد: لا شأن لك بذلك، ولا أجد الآن متسعاً من الوقت لكي أخبرك خبره.

ولكن، ادعِ لي صالحاً، أين أنت ياصالح؟ 

سمع صالح صوت والده، فأتى مسرعاً.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لقد تأخرت يا أبتي وطال سهرك الليلة.

أبو صالح: يخرج السيف من غمده ثم يناوله لأبنه ويسأله: هل تعرف هذا السيف يا بني؟

كأني أعرفه، لكن الضوء غير كاف لرؤيته جيداً.

سعد: هذا السيف الذي أهديته أنت لصديقي عمك ناصر. 

صالح: ولأي سبب هو معك الآن يا أبي؟

تلك قصة طويلة سأرويها لك ولأمك غداً..فالوقت متأخر جداً..

ينصرف الجميع للنوم.. 

يتبع.. 


     [ الحلقة :٢٤]

في صبيحة اليوم التالي.. بعد أن عاد سعد من صلاة الفجر.. نادى زوجته شيماء يا أم صالح هل أعددت طعام الإفطار؟

فردت عليه:  نعم، نعم.. هاهو ذا بين يديك.. 

ثم دعت ابنها صالحاً، فرد أبو صالح:  يبدو لي أن صالحاً مشغول بتجهيز متاع السفر، فكما تعلمين أني قد كلفته ببيع محصول التمر لهذا الموسم في المدينة..

أم صالح: ها هو ذا قادم..

وصل صالح ، سلم وقبّل يدي والديه.

 ثم جلس الجميع لتناول طعام الإفطار. 

وقبل أن يمد يده لتناول الطعام، قال أبو صالح لابنه: هل انتهيت من كل ما يلزمك للسفر؟

صالح: الحمد لله، كل شيء على ما يرام..

قام سعد بعد أن فرغ من الطعام، وأخرج السيف، ثم قص على زوجته وابنه قصة إهداء ناصر السيف له.

وما قيل في المجلس ليلة البارحة عن إهداء الهدية.. وذكر لهم، كلام الشيخ في ذلك.

لكن صالحاً.. لم يرق له ذلك، وعزّ عليه أن يرد ناصر هديته.

فقال والده: يا بني! 

هذا الرجل - عمك ناصر- أعز أصدقائي وهو بمثابة أخي ..وله عليّ أفضال كثيرة، فكم غمرنا بفضله، وحسن خلقه ووفائه، لذلك لم تطب نفسه أن يرد هديتك له أول مرة، ولكنه انتهز الفرصة ورأى أن يكسونا جميلاً علاوة على ما سبق !

فخذ يا بني السيف هديةً مني لك.. ولا تكلمني عنه مرة أخرى، بارك الله لك.

أخذ صالح السيف من أبيه، والبشر يتلألأ من عيني أمه شيماء سروراً بأن عاد السيف لابنها.

انتهى مجلس الإفطار وقام كل منهم لشأنه..

وفي عصر اليوم نفسه غادر صالح ببضاعته من التمر إلى المدينة المجاورة ليبيعه هناك..

يتبع…


      [ الحلقة :٢٥].

وصل صالح المدينة، ودخل سوق التمر، عرض بضاعته، وكانت متوسطة الجودة لذلك تأخر بيعها، لبعض الوقت،ثم  بيعت بسعرٍ زهيد.

وبعد أن قبض صالح ثمن البضاعة تجول في السوق، واشترى ما يحتاج إليه أهله مما أوصوه أن يشتريه لهم. 

وأثناء تجوله وبينما كان في دكان أحد التجار، طلب منه صاحب الدكان أن يريه السيف الذي بيده.

فناوله صالح السيف..

تأمل التاجر السيف جيداً، ورأي حليته وجماله ومضاءه، فوقع من نفسه وأعجب به كثيراً..

 ثم قال:

 هل تبيعني هذا السيف يافتى..؟

فقال صالح: نعم، إذا دفعت لي القيمة التي أريد.

فرد التاجر: اعرضه في السوق، وأزيدك فوق السوم ما يرضيك.

فقال: صالح: لا بأس.

خرج صالح من دكان ذلك التاجر، وأخذ يعرض السيف في السوق، ويجول به من دكان إلى دكان.. 

وكان يقول في نفسه: كيف أبيع السيف وهو عزيز عليّ.. ولا حاجة لي بالمال الآن؟

وبعد أن انتهى من عرض السيف على التجار، وصل السوم فيه إلى خمسة آلاف.

عاد إلى صاحبه الأول وأخبره بالثمن الذي عرضه التجار.

فقال التاجر: أنا أشتريه منك وأزيدك على القيمة ألفاً فوق سومهم.

 فأبى صالح إلا بسبعة آلاف.. 

وكان التاجر معجباً بالسيف أيّما أعجاب، ووقع من نفسه موقعاً عظيماً، فرضي التاجر، ونقد له الثمن.

ثم ناوله السيف، وقبض الثمن، وأخذ يقلّب النقود في يده، ثم خطر له خاطر أعجبه، وقال في نفسه: بعد رجوعي للبلد سوف أستخير الله تعالى ثم أستشير والديّ فيما عزمت عليه.

يتبع.. 


 [ الحلقة :٢٦].

بعد عودة صالح إلى بلدته.. أخبر والده بالثمن الذي باع به محصول التمر، وفتح كيس النقود وعدّ له المال.. 

فسأله والده: لماذا كان السعر هذه المرة متدنياً، وهل كان السعر في السوق كله كذلك؟

فقال صالح: لا، والله يا أبي: ولكن كما تعلم أن محصولنا لهذا العام متوسط الجودة..وهو أقل جودة من كثير من المحاصيل التي جُلبت للسوق. 

فقال له أبوه.: صحيح يا بني، ولا نقول إلا الحمد لله.

لم يخبر صالح أباه خبر السيف .. ولم يذكر ذلك لأحدٍ مطلقاً.

وفي مساء اليوم نفسه أقبل ناصر وعبد الرزاق  إلى مجلس سعد..

وقدّم له صالح الضيافة المعهودة من القهوة و التمر لخاله عبد الرزاق  ولناصر صديق والده. ثم دخل الدار لبعض شأنه.

 ثم قال سعد: الحمد لله لقد باع ابني صالح محصول التمر لهذا الموسم وعاد للتو من المدينة..

عبد الرزاق: بكم بعتموه؟ عسى أن يكون السعر طيبا؟

سعد: الحمد الله، الحقيقة أنه أقل من المعتاد بكثير.

ناصر: مؤكد أن يكون كذلك، فجميع من في وادينا يعاني شح المياه منذ سنوات عدة، مما أثر على جودة المحاصيل ووفرتها، وأظن أنه لو طال الوقت على هذا الحال، فقد تجف أكثر المزارع ويخسر كثير من الناس معايشهم.

سعد: هذا هو الواقع، ألست ترى أن المزارع قد جف بعضها فعلاً؟

عبد الرزاق: نعم.

 ولكن هل من رأيٍ ، هل من حلٍ لذلك؟

سعد ينادي ابنه صالح..

يحضر صالح ، يسلم ثم، يسأل والده: أمرك يا أبي؟.

سعد: هذا خالك عبد الرزاق وعمك ناصر قد تحدثا معي في أمر يهم كل من في البلد.. وهو شح المياه بالوادي والجفاف الذي يوشك أن يهلك الحرث والنسل. 

صالح: وهل يمكنني أن أخدمكم بشيء؟

ناصر: إنما نتشاور في الأمر يا بني، وأريد أن تشاركنا الرأي..فأنت رجل مبارك عاقل فطنٌ.  

بعد أن تداول الجميع المشورة وقلبوا الأمور.. لم يكن فيها ما هو مُجدٍ أو ممكن..  

قال صالح: لدي رأي إن أذنت لي يا أبي، حفظك الله.

سعد: تفضل، لعل الله يجعل في رأيك خيرًا .

يتبع.. 


 [ الحلقة :٢٧]

صالح: ما رأيك يا أبي أن نقوم بحفر عددٍ من الآبار في أول الوادي ليسقي أصحاب المزارع منها مزارعهم. ويشترك في ذلك أهل الوادي، ويتعاونون فيه. 

ناصر: هذا الرأي جيد، إلا أن عقبة كؤوداً تقوم دون تحقيقه..!

سعد: أنا لا أرى ذلك مُجدياً، فمهما كان الماء المستخرج من الآبار لن يحل المشكلة..

ناصر: ليس لدينا خيار آخر يا أبا صالح.. لو توفر لنا المال الكافي، لكان ذلك حلاً مقبولاً ونافعاً.

صالح: أبي: ما رأيك لو توفر ما يكفي من المال لحفر ثلاثة آبار أو بئرين على الأقل ؟

سعد: نعم، هذا أمر طيب، ولكن من أين لنا المال اللازم لذلك.

ناصر: لي صديق مؤسر سأطلب منه قرضاً.. نستعين به.. ولن يرفض لي طلب.

صالح: يقرر أن يفاجئ والده بخبر بيعه السيف، وقد تكتم عليه قبل ذلك.. وكانت أمنيته أن يقيم مشروعاً نافعًا لأهل بلده.

والآن فقد ساق الله إليه ذلك.

سعد: الكلام سهل يا ناصر ، واقتراضك لن يحل المشكلة.

ولكن نرجئ ذلك حتى يتيسر لنا الحال، أو يأتي الله بأمرٍ وفرجٍ من عنده.

يغتنم صالح الفرصة، فيقول:

يا أبي، أبشرك أن الله قد يسر لنا ذلك.!

فيرد عليه والده، وهل ستقترض أنت الآخر؟

ولو اقترض كل أهل الوادي لما جمعتم ما يكفي لحفر بئر واحدة.

صالح: أبي، أبشرك ..يقاطعه والده مرة ثانية: 

بم تبشرني؟

صالح: أبشرك أن الله يسر لي أمراً من عنده، لقد بعت السيف في المدينة، بثمن طيب، والحمد لله.

سعد: ولم تخبرني..أيها ال .. قبل الآن،؟!

عجيب أمرك!!.

صالح: الحقيقة يا ابتي إن معاناة أهل الوادي من الجفاف أمر يهم الجميع، وذلك مما يؤرقني ويشغل بالي كثيراً..وكم كنت تحكي لنا اهتمامك بذلك. 

سعد: وماذا عساك أن تفعل؟

صالح: أنا أتكفل يا أبي بحفر البئرين، وعسى الله أن يجعل فيهما الخير والبركة..

سعد: ومن أين لك المال، وتكلفة حفر البئر الواحدة قد تبلغ ثلاثة آلاف دينار.

ناصر: التكلفة المقترحة فعلاً باهظة، ويعجز عنها الجميع.

صالح: لقد بعت السيف كما ذكرت لك يا أبي بمبلغ طيب.. أستطيع أن انفق على حفر البئرين ستة آلاف دينار.

سعد: ومن أين لك هذا المبلغ الكبير؟!

صالح: ألم أقل لك يا أبي أني قد بعت السيف بأكثر من خمسة آلاف؟

فيرد عليه والده : ماذا تقول..؟! هذا غير معقول ، مهما كان الأمر، وبرغم جودة السيف  فلن تجد من يشتريه بأكثر من ألفي دينار.

ناصر: إذا كان الأمر كما يقول صالح، فماذا ترى الآن يا أبا صالح.؟

سعد: نتوكل على الله، ونبحث لهذه المهم عن عُمال أقوياء، ثم نباشر الحفر. 

ولكن أولاً هات المال يا صالح حتى أصدِّقك.!

يتبع.. 


   [ الحلقة :٢٨]

يستجيب صالح لأمر أبيه. ويدخل الدار ليحضر المال .

ثم يقول والده لناصر: هل تظن يا أبا حاتم أن صالحاً صادقٌ في ما ذكر من القيمة التي باع بها السيف..؟

ناصر: دعنا ننتظر.. لنرى!!

في تلك اللحظة يدلف عليهم صالح وهو يحمل صرة قد عجزت يده عن حملها. ثم يضعها في حجر أبيه قائلا: تفضل يا أبي!.

يقلّب سعد المال ويعده.. ويعطي سعيد بعضه ليعد معه..

ناصر: ما شاء الله ،تبارك الله.!!

يا صالح لو كانت لي بنت لزوجتكها.

سعد: أمن أجل المال، يا سعيد، لم أكن أظن أن حب المال بلغ بك هذا الحد!

ناصر: معاذ الله ! أن يكون ذلك عن طمع مني في المال. ولكنني عرفت في ابنك صالح خلالاً.. قلّ أن تجدها في أبناء هذا الزمان..

أني لأذكر مبادرته بإهدائي سيفه عند زيارتي لك بعد شفائك من المرض، وهذا دليل بره بك.. وصلاحه.

صالح ينصرف عندما سمع هذا الإطراء فيه..

يلتفت أبوه يمنة ويسرة فلا يراه عندهم في المجلس، فيسأل ناصر: أين صالح؟

ناصر:  لقد انصرف صالح خلسة، من المجلس عندما سمع مدحي وثنائي عليه.. وهذا من تواضعه وكرمه..

بارك الله لك فيه يا أبا صالح!!

والآن كيف ترى في أمر حفر البئر..

سعد: غدا بمشيئة الله نبدأ. وعليك الليلة قبل أن تعود أن تخبر الجيران وتبحثوا عن عمال للحفر، وموعدنا إن شاء الله بعد صلاة الفجر في الوادي لاختيار المكان الملائم لحفر البئر الأولى.

ناصر: كما تريد يا أبا صالح،

استأذنك بالانصراف.

سعد: في حفظ الله.. اللهم يسر لنا  من أمرنا رشدنا... يتبع

 

  [ الحلقة: ٢٩]

بينما كان ناصر في طريقه إلى داره، أخذ يفكر في الأمر الذي كلفه به سعد، وهو البحث عن عمال لحفر البئر.. تذكر المعلم عابس ذلك الرجل القوي الذي يعمل في البناء، فكم بنى من بيوت القرية. عرّج ناصر على داره ولما اقترب منها ناداه: عابس..يا عابس.!

أجابه عابس: من المنادي ..؟ 

ناصر: أنا أبو حاتم أخرج إليّ أريدك في أمر هام.

خارج عابس مبادرًا، وأخذ يتمتم: لم يأت ناصر هذه الساعة إلا لأمر قد حدث..!!

السلام عليكم .

ناصر: وعليكم السلام..

عابس: خيرًا إن شاء الله!

ناصر: الحمد لله، لا تقلق، ولكن لدينا عمل نحتاجك فيه، وعلى على عجلة من أمرنا، فهل لديك القدرة عليه.

عابس: وما هو؟

ناصر: نريد أن نحفر بئرين أو ثلاثاً لأهل الوادي كي يستقون، ويسقون مزارعهم منها.

عابس: وأنا لدي كل ما تحتاجون إليه من عمال وأدوات للحفر.

ناصر: هل نتفق على الأجرة أولا؟

عابس: لا بد من ذلك...فحفر البئر مع بنائها بالأحجار يكلف كثيراً.. وقد يستغرق منا وقتاً طويلاً.

ناصر: لا عليك.، فالأمور متيسرة بحمد الله، ولكن لابد أن نعرف أجرتك، قبل كل شيء.

عابس: حفر البئر الواحدة مع بنائها وطيها بالأحجار يكلف ألفي دينار..

ناصر: كيف عرفت ان هذه تكلفة حفر البئر الواحدة، ثم إنّ هذا المبلغ كبير جدا!

عابس: أنت تراه كذلك ولكن هل تعلم كم من اليد العاملة نحتاج؟ وكم من الوقت يلزمنا لإتمام الحفر والبناء ..؟

ناصر: لا بأس اتفقنا، ولكن هل عمالك جاهزون.؟

عابس: لو أردتم من الآن..

ناصر: توكلنا على الله، بعد صلاة الفجر أراك في أعلى الوادي.

عابس: إن شاء الله.

 يتبع… 


 [ الحلقة :٣٠]

عندما انصرف ناصر، دخل عابس بيته والسرور ظاهر على وجهه..

فبادرته زوجته بالسؤال: أراك مسروراً؟

عابس: الحمد لله، طلب مني ناصر أن أحفر لأهل الوادي بئرين في الوادي.

الزوجة: هذا عمل خير ونفع للجميع، فإياك  والجشع، فأنا أعرف حبك للمال.. 

عابس: إنما طلبت منهم ما أره بالكاد يكفي أجرة الحفر والبناء.. فقط أربعة آلاف دينار!

فردت زوجته: يا لك من رجل طماع..!

إن هذا المبلغ باهض جداً.

وأهل الوادي لو اجتمعوا كلهم لا يمكنهم توفير نصف هذا المبلغ..

عابس: قد تم الاتفاق على ذلك، فاحتفظي بنصائحك ياسلمى. 

وأعدك أني لن أنساك فسوف أعرس، وآتي لك بضرةٍ تساعدك في عمل البيت.

انصرفت سلمى عنه وهي تقول: لا حديث لك إلا الزواج..والضرة..!! 

ليتك تصل أمك ولو بأقل القليل من المال الذي تبذره هنا وهناك..

غضب عابس من كلام زوجته وتعييرها له بعقوق أمه.. وما شعرت إلا وقد صفعها صفعة أدمت وجهها.!

 ثم غادر المنزل غاضباً دون أن يشعر بأثر فعلته الشنيعة..

ذهب إلى مجمع العمال وأخبرهم عن المهمة الجديدة ، ونام بقية ليلته عندهم..

وفي الصباح انتقل بهم إلى أعلى الوادي.

أما زوجته سلمى فقد باتت تشكو إلى الله سوء خلق زوجها معها، وعقوقه لأمه..!

وبكّر سعد وولده صالح أيضًا إلى أعلى الوادي..

وما إن وصلا إلى المكان المطلوب، حتى لحق بهما ناصر وجماعة من جيرانهم.

 تشاور الجميع في اختيار الموقع المناسب، كلٌ يبدئ رأيه...

وبينما هم كذلك إذا وصل ناصر وعابس وعماله.. 

لم يختلفوا كثيراً في تحديد موقع الحفر. وعندما تم تعيينه تقدم سعد فقال: بسم الله نبدأ، وعليه نتوكل.!

باشر العمال الحفر وقطع الصخور التي تنحت منها أحجار طي البئر.

ولما أطمئن أهل الوادي بما فيهم سعد وابنه صالح وصديقه ناصر على البدء في العمل عادوا إلى منازلهم، واستمر عابس وعماله في الحفر..

مضت عدة أيام من العمل المتواصل.. والأمور على ما يرام.. وذات يوم…

 يتبع… 


      الفصل الرابع

       [الحلقة:٣١]

بينما كان عابس منهمكاً في حفر البئر مع عماله، إذا أقبل سعد وناصر يتفقدان سير العمل، ثم جلسا تحت ظل دوحة من أشجار  الطلح قريبة من البئر.

أخذ سعد وناصر يتحدثان في شأن البئر، وكم من الوقت يلزم لإنهاء العمل.

ثم قال: ناصر: أظن أن عشرة أيام كافية لإنهاء الحفر والبناء في البئر يا أبا صالح، اليس كذلك؟

فرد عليه: سعد، وأنا أظن ذلك كذلك، ولكن هل تتوقع أن الماء سيكون عذباً، وغزيراً..؟

ناصر: الله أعلم وأكرم، نحن توكلنا عليه، وهو سبحانه الغني الكريم.

أقبل إليهما عابس وجلس  يستريح قليلاً في ظل طلحة قريبة منهما، سمع كلامهما.. فعقب على حديثما بقوله: هذا الوادي معروف بعذوبة الماء وغزارته. ونحن على وشك الفراغ من هذه البئر، فمتى تريدان البدء في حفر البئر الثانية.؟

ناصر: وهل فرغت الآن من حفر هذه أولاً.؟

لا عليك، فإن شاء الله بعد ذلك مباشرة ، ولكن دعنا من هذا كله، وقل لي هل صحيح أنك عازم على الزواج من زوجة ثانية؟

عابس: صحيح! ولكن من أخبرك بهذا؟

ناصر: الذي أخبرني بذلك، أخبرني أيضاً أنك صفعت زوجتك عندما ذكّرتك ببر أمك، وحثتك على الإحسان إليها!

اشتط غضب عابس عند ذلك.. وهمّ بالقيام لينصرف للعمل..

فقال له سعد: اجلس يا عابس، واخبرني:  هل صحيح ما يقوله أبو حاتم.؟

يتلجلج عابس في الكلام، ويحاول الانصراف مرة أخرى.

فيقول سعد: إن لم تخبرني بكل ما جرى منك مع أمك وزوجتك، فسأوقف العمل الآن، ولا حاجة لنا بعمل رجل عاق لأمه، ظالم لأهله.!!

عرف عابس أن الأمر جدّ، وأنه قد اشتهر خبر عقوقه لأمه وظلمه زوجته..واستغرب كيف بلغهم خبرهم! 

فقال له ناصر: أين أنت يا عابس من بر أمك التي وصاك الله بها، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ألم تقرأ قول الله تعالى: ﴿وَوَصَّينَا الإِنسانَ بِوالِدَيهِ حَمَلَتهُ أُمُّهُ وَهنًا عَلى وَهنٍ وَفِصالُهُ في عامَينِ أَنِ اشكُر لي وَلِوالِدَيكَ إِلَيَّ المَصيرُ﴾ وقوله تعالى:{وَوَصَّينَا الإِنسانَ بِوالِدَيهِ إِحسانًا حَمَلَتهُ أُمُّهُ كُرهًا وَوَضَعَتهُ كُرهًا ..} وقوله سبحانه:{وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم :

"إنّأكْبَرَالْكَبَائِرِ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ".

وقوله صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ".

فقال سعد: أما سمعت شيئًا من أحاديث البر بالأم.. قبل اليوم يا عابس؟!!

عابس: بلى، أعرف كل الآيات التي ذكرتها ياأبا صالح ، وبلغني حديث النبي صلى الله عليه وسلم.. الذي فيه أن رجلا سأله: منْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ 

قَالَ : " أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ،.. ".

ناصر: فأين أنت من كل ذلك يارجل؟

طأطأ عابس رأسه خجِلاً نادماً، والعرق يتحادر عن وجهه كالمطر..

فقال: كنت جاهلاً بعاقبة ذلك، ومغرورًا بقوتي، منشغلاً بعملي وطلب الرزق..!

يتبع..



       [الحلقة:٣٢]

يواصل عابس كلامه فيقول:

الحمد الله الذي أيقضني من الغفلة بسبب حديثكما هذا، وجزاكما الله عني خيرًا.

وإني أعاهد الله من الآن أن أبالغ في بر أمي، والإحسان إليها، وإكرام زوجتي..

ينصرف الجميع، عابس إلى عمله..ينادي أحد العمال اقطع هذه الصخرة.. ثم قربّها من فوهة البئر ..ثم باشر عمله.. 

وأما سعد وناصر فقد توجها عائدين إلى بيوتهما. 

وفي الطريق كان هذ الحديث الشيق بينهما..

ناصر: أسعدك الله يا أخ سعد.. كم لك من الفضل على أهل البلد والوادي، كم لك من مكرمة عليهم يا أبا صالح، تعلم جاهلهم، تنصح وتنبه غافلهم، تخدمهم بمالك وجاهك..!

سعد: هل فرغت يا أبا حاتم..؟

ناصر: نعم.

سعد: وأنت لا ترى فضلك وسماحة نفسك، وحبك الخير للناس..

ثم إنّ المال الذي نحفر به البئر ليس من عندي، ولا من مالي، وإنما هو كما تعلم من ولدي صالح.

ناصر: الولد سر أبيه، وهذا من حسن تربيتك له.. حفظه الله وبارك فيه.

سعد: قبل أن نفترق ما رأيك الليلة نسمر سويًا فقد افتقدت أحاديثك الطيبة..؟

ناصر: إن شاء الله.. وسأحضر معي المعلم عابس لعله يستأنس.. ويذهب ما في نفسه من الخجل حين رأى أننا علمنا بما أقدم عليه من عقوق أمه، وضربه زوجته..

سعد: أحسنت، ولكن لا يطول بنا السمر، فعابس لديه عمل في الصباح،ثم إنه مرهق من عمل اليوم..أليس كذلك ياعابس؟

ناصر: صحيح..والأم كما تحبون. 

يتبع....



      [الحلقة:٣٣]

عندما دخل ناصر بيته أخبر زوجته أم حاتم بقصة عابس، وما حدثاه به هو وسعد عن سوء عاقبة العقوق.. وفضل بر الأم..

فلما سمعت ذلك، قالت: لعله انتفع بشيء من حديثكما؟

فأجابها بقوله: فيما يبدو لنا أن الرجل عرف خطأه وأنه قد ندم.. ولعل الله أن يرزقه التوبة من ذلك، والبر بأمه.

دعينا من هذا الآن، هل حضرّت الغذاء،أم لازلت في تنطعك وانشغالك بأخبار الناس ؟!

اسمعي واعقلي: إياك يا أم حاتم بعد اليوم أن تزورين زوجة عابس، أو تنقلين أخبارهم، هل تفهمين ما أقول؟

أم حاتم: نعم.. وأعدك بذلك.

ولكن لدي سر، هل اطلعك عليه؟

لما سمع ناصر قولها تلهف لمعرفت ذلك السر، فسألها: ما هو؟

أم حاتم :لا لن أخبرك به، وقد نهيتني آنفا عن نقل الأخبار.

ناصر: لا بأس، هذه المرة، قد أذنت لكِ يا شوك.  

أم حاتم أسماني أبي شوق، وأنت تدعوني بهذا الأسم، نعم أنا شوك في حلق من يعاديني..  اسمع يا نويصر.. المرأة التي خطبها عابس..

ناصر: ما بها.؟

شوق: رفضت الخطوبة عندما علمت بسوء عشرته لزوجته الأولى وعقوقه لأمه..

ناصر: لعل في ذلك خير له..

توقفي الآن عن الحديث، وأكملي بقيته عندما أعود إليك في المساء…

شوق:  لن أفعل. 

يتبع.. 



 [ الحلقة:٣٤]

وفي المساء ذهب ناصر إلى دار عابس، واصطحبه معه لمجلس سعد..

ووجدا سعدًا وابنه صالح في استقبالهما..

عندما أشرفا على المجلس نهض صالح فرحب بهما..وأكرمهما.

بعد أن استقر بهم المجلس. 

سأل سعد عابسًا: كيف العمل اليوم معكم؟

فأجابه عابس: الحقيقة يظهر أننا وصلنا إلى طبقة صخرية شديدة، ولا أدري كيف يكون الحال معها غدا..

ناصر: ندعوا الله أن يسهل أمرنا ويحقق لنا ما نرجوه من فضله سبحانه.

الجميع: آمين.

سعد يوجه كلامه لأبنه صالح: هل لديك الليلة من الفوائد ما تمتعنا به، لعل الله أن ينفعنا به؟

صالح: أبشر يا أبي. 

بينما كنت أقلّب في كراس قديم لدي: عثرت على قصيدة رائعة نظمها شاعر أنصاري يدعى زيدًا بعد وفاة أمه، وصف فيه مشاعر الشوق والحنين إلى الأم..

ناصر:كل ما لديك مفيد يا صالح، فأفدنا بل أطربنا حفظك الله.

صالح: حبًا وكرامة. 

 يقول الشاعر:

أفنت لأجلك حسنَها وشبابَها                      

     وفدًى لعينك أتلفتْ أعصابَها

وسقتك ماءَ عيونها مسرورةً                         

         بعنائها لم تشكُ مما نابَها

حملتك كرهًا دام تسعة أشهرٍ                  

      وهنًا على وهنٍ أطال عذابها

تجد المتاعبَ في رضاك لذيذةً                  

      وتكاد تفقد إن ألِمتَ صوابها

لازلت أسكبُ دمعتي متحسرًا                    

       وأتوق لو أني شممتُ ثيابها

قد كان يرضيها القليل فليتني                    

       أعطيتها عمري ونلتُ ثوابها

يا حسرة الأيام يا أماه كم                     

   من نعمةٍ فرطتُ في استيعابها

يا حسرة الأيام يا محبوبتي                   

    لم ألقَ بعدكِ في وفاكِ مشابهًا

يا حسرة الأيام كم أروتْ فمي                      

           فنهلتُ منها ما ألذ شرابها

يا جنةً لم أرعَ حق ودادها                 

كم كنتُ أخشى في الحياةذهابها

من نور عينك أستمد عزائمي                     

         فتهونين وعورها وصعابها

وتغيرت من بعد موتك حالتي                  

     ظمآنَ يتبع في الحياة سرابها

وتبدلتْ دنياي بعدك شدةً                       

        فعدتْ علي وكشرت أنيابها

وغدت صروف الدهر تنهش من دمي  

       فطفقتُ أزجر كلبها وذئابها

نفسي تذوبُ إذا تجدد ذكرها                 

     يا رب فاجبر كسرها ومصابها

أملي بأن ألقاكِ بعد فراقنا                       

        جعل الحياة هنيةً وأطابها

سأظل أدعو الله معتذرًا لها                 

    وأفيض دمع العين إحسانًا بها

يا رب كانتْ جنتي ففقدتها                       

       والحزن شتت همتي وأذابها

يا رب فارحمها كما تعبتْ معي                 

     واجعل إلى دار الجنان مآبها

يا رب هب أمي مقامًا عاليًا                       

      في جنة الفردوس يا وهابها

يا رب واجز حبيبتي خير الجزا                  

     يا رب واجعل باليمين كتابها.

....

ناصر: الله.. الله.!

سعد: ما أروعها وأصدقها من كلمات، لامست شِغاف القلوب قبل الآذان..!

ظل عابس مطرقًا يستمع لهذه القصيدة البديعة.. 

وعندما انتهى صالح من إلقائها، زفر عابس زفرة، وقال على إثر ذلك: 

كأنما يعنيني هذا الشاعر بكلماته.. ولكن الحمد لله.. أن أمي لا زالت على قيد الحياة.. وأسأل الله أن يعفو عني في تقصيري في برها..وحقها..  

ثم انصرف من المجلس دون استئذان..

يتبع...


[ الحلقة:٣٥]

عاد عابس إلى منزله، وهو كاسف البال، مغموماً قد غلب همه على فكره، من الحال الذي تذكره فيما جرى منه من التقصير في بر أمه.. أخذ يمشي في الطريق، وفكره مشغول كيف يكفّر عن خطيئته في عقوق أمه.

ثم هداه الله، وقرر أن يجعل كل همه طلب رضا أمه والإحسان إليها، وهو في طريق عودته لمنزله وجد محلاً لبيع الفاكهة..دخله بغير تفكير .

اشترى كمية متنوعة من الفواكه، وعاد إلى المنزل،،سأل زوجته عن أمه هل نامت، أم لا زالت مستيقظة..سمعت أمه صوته فنادته: تعال ياعابس!

اعطى زوجته الفاكهة وطلب منها أن تغسلها وتضعها في صحن.

سلّم، وقبّل رأس أمه ويديها ثم جلس، وقال:

كيف حالك يا أمي؟

فأجابته بخير والحمد لله.

لكن يا ولدي أراك مهتما بأمري، الليلة على غير المعهود.. منك.!

عابس:لا، لا شيء يا أمي.. ولكن طلب رضاك وبرك هو غايتي..

تعجبت أمه من تحوله عما تعهده منه،ولكنها آثرت الصمت.. ودعت له بالتوفيق.

دخلت زوجته بالفاكهة وأخذ الصحن، وبدأ يطعم أمه بيده.. وهي لا تزال في ذهول من هذا التحول في معاملة ابنها لها.

يتبع..



[ الحلقة:٣٦]

في الصباح الباكر لذلك اليوم خرج عابس وأخذ عماله إلى الوادي لمواصلة حفر البئر.

وما أن ارتفعت الشمس قليلاً حتى أقبل سعد وابنه صالح يتفقدان العمل..

فلما وصلا سلّما..

ثم سأل سعد عابسا: كيف سير العمل معكم..؟

عابس: كانت الأمور طيبة وتسير كما هو متوقع، ولكننا منذ صباح اليوم والعمال يواجهون صعوبة في الحفر، يبدو أننا وصلنا منطقة صخرية صلبة..

صالح: كم استغرقتم في العمل إلى اليوم؟

عابس: هذا اليوم العاشر.. ولم نصل إلى الماء، والآن نواجه مشقة شديدة في الحفر..

سعد: استعينوا بالله، ولا تجهدوا أنفسكم.. اعملوا قدر طاقتكم..

انصرف صالح وأبوه عائدين.

بقي عابس.. والعمال..

سأل عابس العمال الذين بأسفل البئر: كيف الوضع عندكم؟

فأجابوه: لا جديد.. غير أن بعض المعاول تكسر من صلابة هذه الصخرة..

عابس: استريحوا قليلا.

يصعد العمال من البئر.. ليأخذوا قسطًا من الراحة..

وقبل أن يستأنفوا العمل جاءهم ناصر..ألقى السلام ونظر إليهم فوجدهم قد توقفوا عن العمل.. فاستغرب ذلك، فسأل: ما بكم؟

فأخبروه أنهم وصلوا في الحفر إلى صخرة شديدة الصلابة.. وقد تكسرت بعض المعاول منها..

ناصر: اسمع يا عابس لقد استغرقت وقتًا أطول مما وعدتنا به.. فهذا اليوم العاشر من العمل، ولا أثر للماء، وهذه الكدية التي أرى أنها قطعت عملكم، وتوقفتم بسببها عن الحفر.. 

فهل من طريقة لمواصلة العمل؟ 

عابس: لا خيار لنا إلا الصبر والاستمرار في الحفر.

 وقد كان هنا قبل قليل سعد وابنه صالح ورأوا ما رأيت..

ناصر: وماذا قال أبو صالح؟

عابس: طلب منا أن نستمر في العمل قدر طاقتنا، وألا نجهد أنفسنا فوق طاقتها.

ناصر: لا بأس..

عاد ناصر..وواصل عابس وعماله الحفر إلى نهاية اليوم دون نتيجة تذكر..

وقبيل مغادرتهم البئر.. قال أحد العمال لعابس: أرى أن نتوقف عن الحفر هنا.. فكما ترون أن هذه الصخرة يبدو أننا لن نفلح في كسرها وتجاوزها..

عابس: غضب من مقالة العامل وانتهره..

ثم غادر عابس المكان عائدًا إلى منزله، قائلا: انصرفوا الآن وفي الغد إن شاء الله نواصل العمل..

يتبع...


[ الحلقة:٣٧]

اجتمع في مساء ذلك اليوم سعد وناصر وعابس وبعض رجال القرية في منزل عبد الرزاق. 

ودار بينهم الحديث عن وضع الحفر المتعثر للبئر..

قال ناصر: صف لنا يا عابس المشكلة التي واجهتكم في الحفر.

عابس: كما تعلمون أن المدة المتوقع فيها انجاز الحفر للوصول إلى الماء عشرة أيام كحد أقصى. واليوم استكملنا أحد عشر يوما، ولم نر بصيصًا من أمل، بل واجهتنا مشكلة لم نتوقعها، وهذه الكدية التي سمعتم خبرها، كأنها قطعة من النحاس وليست من الصخر. 

ضرب فيها العمال أكثر النهار، تكسرت المعاول ولم نفلح في تجاوزها أو كسرها.

سعد: ماذا ترون؟ هل من مشورة؟ 

عبد الرزاق: نتوقف عن الحفر في هذه البئر، ونشرع في البئر الثانية عسى الله أن يجعل فيها خيرًا وعوضًا..

عابس: وأجرتي في حفر البئر الأولى استحقها كاملة ألفي دينار..

سعد: ابشر، فالمؤمنون على شروطهم، أجرتك حاضرة. ولكن حاولوا غدا معاودة الحفر، قد تنجحون في مهمتكم.

عابس: ابشروا ، ولكم مني ما تريدون..

ولكنني سأعرض عليكم أمرًا عسى الله أن يجعل فيه خيرًا..

سعد: وما هو؟

عابس إذا قررتم البدأ بحفر البئر الثانية فلنجتمع سوياً لاختيار الموقع المناسب.

ناصر: رأي حسن...

بعد أن انتهى النقاش والتشاور في أمر البئر.. 

 وبعد أن تناول الجميع طعام العشاء على مائدة عبد الرزاق..

أراد سعد تسلية الحضور وأبعاد شبح اليأس عنهم ، فقصّ عليهم قصة رائعة و نادرة في البر بالأم، 

وهي قصة أحمد  والعقد..

يتبع...


 

[ الحلقة:٣٨]

سعد يحكي لهم قصة أحمد والعقد، فيقول: 

أحمد شاب متدين كريم الأخلاق معروف ببره لوالديه..

لقد بلغ من بره بأمه أن كان يزورها كل يوم يتحدث معها ويتفقدها. ويقضي لها ما تحتاج إليه من الأعمال.

وفي أحد الأيام زارت أمَه امرأةٌ قريبة لهم، وبينما هي تتحدث معهم، كانت أم أحمد تنظر بين لحظة وأخرى إلى عقد ذهبي في عنق هذه المرأة الزائرة.. 

رأى أحمد أمه تكثر النظر إلى العقد ففهم اعجابها به.. فانسل في غفلة منها.. وذهب إلى سوق لبيع الذهب غير بعيد من منزل والدته.. بحث في السوق حتى وقع على عقد مماثل تمامًا لذلك العقد، فاشتراه، وعاد مسرعاً.

فلما دخل على أمه قدّم لها العقد الذي اشتراه..

فنظرت إليه مستغربة وسألته ما هذا؟

فأجابها أحمد: هدية لكِ يا أمي.. مثل عقد المرأة التي كانت عندنا قبل قليل.. عسى أن يعجبك، وأنال رضاك ..

عابس: يبادر الحضور بقوله: كلما أسمع قصة عن بر الأم أو آية أو حديث أشعر أنني أنا المقصود بذلك من بين الناس!

ناصر: تُرى ما السبب يا عابس؟!

عابس: لأنني كما تعلمون أكثركم تقصيرا في بر أمي.

سعد: لكن الذي نراه ونسمعه هذه الأيام عنك أنك مجتهد في برها فابشر بالخير..

عابس: الحمد لله.

بعد ذلك استأذن الجميع للانصراف.

ثم قال عابس قبل أن ينصرف : يا أبا صالح لا تنس، أنني لم أقبض من أجرتي شيئا إلى اليوم..

سعد: ابشر، خذ هذه ألف دينار..

يلتقفها عابس وينطلق تباري ساقه الريح..

يتبع…


[الحلقة:٣٩]

في طريق عودة عابس لمنزله مر بمحل لصياغة الحلي.. توقف عنده وقرر أن يشتري لأمه قلادة فاخرة كما سمع في قصة العقد الذي اشتراه أحمد لأمه..

ولكن لم يكن في بلدتهم مصوغات ذهبية لكونهم يعيشون في بلدة بعيدة عن المدن وأكثر الناس فقراء لا يجدون من المال إلا ما يكفيهم للمعيشة.. لهذا فإن مصوغات وحلي النساء من الفضة والأحجار الكريمة تعتبر أجود ما يكون وإنما تشترى للمرأة عند عرسها..

وقف عابس يقلب نظره في محل المصوغات الفضية، ووقعت عينه على عقد أعجبه.

سأل البائع: بكم هذا العقد؟

البائع: هذا غال الثمن ابحث عن غيره..

عابس: أنا أسألك عن قيمته، وليس من شأنك أني استطيع شراءه أولا أستطيع.

صاحب المحل: كما تريد: هو بخمسين دينارا..

عابس: لماذا؟

صاحب المحل: ألم أقل لك.

عابس: باستطاعتي شراءه، ولكن أريد معرفة سبب ارتفاع قيمته.

صاحب المحل: هو من العقيق اليمني النادر واللؤلؤ الفاخر والفضة..

ينقد عابس خمسين دينارا.. ويأخذ العقد..ثم يواصل سيره إلى منزله.

دخل عابس وصلي الوتر ثم رقد.. حتى سمع أذان الصبح.

صلى الفجر وعاد من المسجد، ووجد زوجته قد أيقظت أمه للصلاة وجهزت لها طعام الإفطار.

ألقى عابس السلام على أمه وقبل رأسها ويديها وتناول معها الطعام ..

ثم فتح كيس العقد وناوله أمه.. دهشت العجوز، من المفاجأة وفرحت بالقلادة.. ودعت لعابس: اللهم وفّقه وبارك له في رزقه، وأعنه على أمور دينه ودنياه.

عابس: جزاك الله خيرا يا أماه، أستأذنك الآن.

الأم: في أمان الله يا ولدي .

لما رأت امرأة عابس القلادة، تغيرت ملامح وجهها حسداً وغيرةً.. ولكنها اخفت مشاعرها إلى حين. 

يتبع....


[ الحلقة:٤٠]

في صباح اليوم التالي وصل عابس والعمال إلى البئر ، وطلب من العمال مواصلة العمل في الحفر..

نزل المعلم ومعاونه.. وأخذوا يضربون في الصخرة بالمعاول دون جدوى..

ينادي المعلم: يا عابس، انزل لترى بنفسك.. 

نزل عابس في البئر وجرّب بنفسه ضرب الصخرة بالمعول مراراً حتى فترت يده، ولم ير سوى الشرر يتطاير من الصخرة..

ثم طلب من العمال التوقف عن العمل..

فقال: البارحة طلب مني أبو صالح مواصلة الحفر اليوم ، فإذا لم نحرز تقدما في فلق هذه الصخرة فسنضطر لوقف العمل نهائيا في هذه البئر، ونشرع في حفر البئر الثانية..

بعد لحظات أقبل سعد وناصر وجماعة من أهل القرية ..

وسأل ناصر: ما بكم يا عابس..؟

فأخبرهم..بما حصل معهم..

سعد: لا بأس، ما رأيكم أن نتوقف عن الحفر في  هذه البئر، وننتقل لحفر البئر الثانية.

ناصر.. وأين ترون المكان المناسب. أخشى أن نقع في صخرة أخرى كهذه.

تفرق الجميع ينظرون المكان الملائم ، وقع اختيارهم على موضع ظنوا أنه مناسب.

عابس: نبدأ باسم الله..

باشر العمال الحفر من ساعتهم.. واستمر العمل اليوم الأول والثاني على أتمّ وجه ،

 وفي اليوم الثالث..

وأثناء الحفر وصلوا الطبقة الصخرية..

فتعثر الحفر وتوقف العمال عن العمل..مرةً اخرى.. 

فغضب عابس وحصل شجار بينه وبين أحد العمال..

يتبع...



      الفصل الخامس


      [ الحلقة:٤١]

  نظرا لإصرار العمال على إيقاف العمل في حفر البئر غضب عابس وشتم أحد العمال.

فقال له العامل: هل تريدنا أن نعمل لك بالمجان، قمنا بحفر البئر الأولى أحد عشر يومًا، ولم نقبض درهمًا واحدًا من أجرتنا.. ولنا في حفر هذه البئر ثلاثة أيام، وتشتمنا فوق ذلك؟!!

لن نعمل لك مالم تدفع لنا كامل أجرتنا الآن.

فرد عابس: وأنا كذلك لم أقبض شيئًا بعد.

أحد العمال: أنت تكذب، والألف التي قبضتها قبل ليلتين من سعد؟

خجل عابس. فصرف وجهه، وجعل ينظر إلى الأفق كمن يبحث عن شيء.

ثم إن العمال غادروا المكان وتركوا عابسًا وحيدًا يقلّب كفيه.

ثم صرخ بهم وقد ابتعدوا عنه: 

توقفوا..انتظروني..سأعطيكم اليوم من أجرتكم..

رد عليه أحدهم :إن أردت أن تعطينا أجرتنا فموعدنا الليلة في مجلس سعد..

عاد عابس إلى منزله كاسف البال مهموما.. فاستقبلته زوجته  سلمى بطعام لذيذ وشراب بارد.. ولما رأت وجهه عابسًا ..

قالت: مداعبة له.. عابسٌ عابسًا..! وافق اسم رسما.!!

ما بك أيها الغالي؟

فقال: غيرتك من أمي لما رأيتِ العقد عليها.. أصابني شؤم ذلك.. واختلفت مع العمال فانصرفوا وتركوا العمل..

يتبع...


[الحلقة:٤٢]

سلمى: ماذا تقول؟

تركوا العمل، غريب هذا الأمر، ولماذا؟

عابس: واجهتنا في الحفر مشكلة عويصة، وأخشى أن تكون مثل البئر الأولى. واختلفت مع العمال، فطلبوا أجرتهم.

سلمى: ولم تعطهم شيئًا منها بعدُ إلى اليوم؟

عابس: نعم.

سلمى: اتق الله يا رجل، اتق الله واعط العمال أجرتهم.. هل تريد أن نأكل حرامًا..؟

عابس: الحمد لله لقد أصبح في بيتنا واعظة.!

نادته أمه من الداخل: ما الذي أسمعه يا ولدي: ما الذي أحوجك لكل هذا.؟

اتق الله في نفسك، واذهب الآن إلى عمالك، وأعطهم أجرتهم.

عابس: أمركِ يا أماه.. أبشري الآن أفعل ذلك.

خرج عابس وهو عازم على الذهاب لمقر العمال، وبينما كان سائرًا في الطريق، سمع أذان العصر فعرّج على المسجد وصلى مع الجماعة..

بعد السلام أخذ الإمام كتابا فقرأ منه بضعة أحاديث كان منها الحديث التالي: قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ".[رواه البخاري:٢٢٢٧]

فوقع هذا الحديث من قلب عابس موقعاً شديدًا، وخشي أن تناله تلك العقوبة، فخرج من المسجد صوب مقر العمال، فلما وصل إليهم، ألقى السلام، وأستأذن بالدخول، فردوا السلام وأذنوا له ورحبوا به على مضض. 

فقال لهم قبل أن يجلس: أنا اعتذر إليكم في تأخري عن دفع أجرتكم.

وهذه ثمان مئة دينار من أجرتكم، ولكم عليّ متى ما قبضت بقية الأجرة أن أوفيّكم أجرتكم..

فقالوا: لا بأس، قد عذرناك الآن، وعفونا عنك. فوعدوه بالعودة للعمل في صبيحة الغد..

يتبع..


[ الحلقة:٤٣]

وفي مساء اليوم نفسه ذهب عابس لمجلس سعد، و وجد عبد الرزاق وناصر وبعض أهل البلد قد سبقوه بالحضور.. سلم وجلس، وكانوا لا يعلمون عن توقف الحفر والخلاف بين عابس والعمال..

يدور الحديث بينهم..

وكان مما أدركه عابس من حديثهم أن سمع ناصر يقص عليهم بعض ما واجه نبي الله صلى الله عليه وسلم من عداوة قومه بمكة وأذاهم له، 

فيقول: في مسند أحمد عن ابن عباس أَنَّ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ،  فَتَعَاهَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى : لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ. قَالَ : فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَبْكِي، حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ : هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِكَ فِي الْحِجْرِ، قَدْ تَعَاهَدُوا : أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ، قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ. قَالَ:" يَا بُنَيَّةُ، أَدْنِي وَضُوءًا " فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا : هُوَ هَذَا، هُوَ هَذَا، فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَامَ عَلَى رُؤوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ ترَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ : "شَاهَتِ الْوُجُوهُ".

قَالَ:فَمَا أَصَابَتْ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاةٌ، إِلَّا قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا".

فعقّب سعد بقوله: لو أننا ندرك معاناة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكم واجه من مشقة ونَصَبٍ وكيدٍ من أعداء الله، وعرفنا كم صابر وصبر صلى الله عليه وسلم في سبيل تبليغ رسالة الله إلينا. لو أدركنا ذلك جيدًا لزاد  توقيرنا ومحبتنا له صلى الله عليه وسلم 

الحضور جميعا: صلى الله عليه وسلم ، وجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته.

عابس: هل تأذنون لي بالكلام.؟

ناصر: لقد طال بنا المجلس استأذنكم..

انصرف الجميع..

ولم يتمكن عابس من إخبارهم عن توقف العمل، وما حصل له مع العمال..

يتبع..


[ الحلقة:٤٤]

في صباح اليوم التالي توجه عابس والعمال إلى البئر، وما إن بدأوا الحفر حتى وجدوا أن تلك الطبقة الصخرية في غاية الصلابة مثل التي واجهتهم في البئر الأولى..

يضربونها بالمعاول دون جدوى.

قرر عابس وعماله إيقاف العمل بعد أن أرهقوا أنفسهم وكلفوها فوق طاقتها لعلهم أن يتجاوزوا تلك الصخرة.

ولكن باء كل جهدهم بالفشل.

فاسودّت الدنيا بوجه عابس، وانصرف هو وعماله عائدين إلى دُورهم.

وقبيل صلاة المغرب خرج عابس قاصدًا دار سعد.. وعرّج في طريقه على دار ناصر.. وطلب منه مصاحبته لمجلس سعد 

فسأله ناصر: هل في الأمر ما يستدعي ذلك؟

عابس: نعم، وسأخبرك إذا اجتمعنا مع أبي صالح.

بعد صلاة المغرب وصلا إلى مجلس سعد ووجداه وابنه صالحا بانتظارهم..

عابس: أرجو أن تأذنوا لي بالحديث ..

سعد: خيرًا، إن شاء الله..

ماذا وراءك؟

عابس: حصل اليوم خلاف بيني وبين العمال…

قطع ناصر عليه حديثه، قائلاً: لابد أنك لم تعطهم أجرتهم.

عابس: صحيح كلامك يا أبا حاتم، ولكنني أعطيتهم الليلة.. بعض الأجرة، ووعدتهم متى ما أعطاني أبو صالح باقي المبلغ أوفيهم أجرتهم.

سعد: أبشر أنت وإياهم بكل خير.

عابس: بارك الله فيك، ولكن ليس هذا ما أريد أن أخبركم عنه.

ناصر: نعلم.. أنك طماع، وتريد زيادة في الأجرة، أليس كذلك؟!

عابس: حسبي الله ونعم الوكيل. يا أخ ناصر لو تكرمت أعطني فرصة للحديث، فإن ما بي من الغم والهمٍ ما يكفيني..

يتبع....


[ الحلقة:٤٥]

يواصل عابس: الحديث فيقول: 

ليس الأمر كما تظن يا أبا حاتم، ولكن اعترضتنا الطبقة الصخرية مرة أخرى.

ناصر: دعنا من مناوراتك يا عابس فالجميع يعرفها..

سعد: دعه يتكلم يا أبا حاتم!

ناصر: بل أنا من سيحدثكم عنه.. لعلكم لا تعلمون أن عابسًا جشع ، يحب جمع المال كثيرًا رغم أمانته في العمل.

سعد: ليس الأمر كما تظن يا أبا حاتم، فعابس ثقة ورجل أمين ومعروف.

أرجو يا أبا صالح أن ترسل صالحًا إلى مقر العمال فيأتي بهم إلى مجلسكم ،وستعلمون صدق قولي. 

سعد: ولكن لماذا يا عابس،؟

عابس: الأمر أكبر من أن تصدقوني..

ناصر: ومتى كنا نصدقك؟

يغضب عابس: ويقول: يا أبا صالح.. أرجو أن يكف ناصر عني لسانه.. وإلا عرفتُ كيف أُسكِته.

سعد: لك ذلك، دعنا من العمال، وتكلم أنت، وأنا أسمع.

عابس: اعتذر عن مواصلة العمل في حفر البئر الجديدة .

ناصر: هل سمعتم؟ 

وماذا استفدنا من حفر البئرين؟ ولماذا تعتذر عن مواصلة العمل..؟

عابس: حظي سيئ  للغاية معكم، لقد وصلنا إلى الطبقة الصخرية التي واجهتنا في البئر الأولى، وتعب العمال جميعهم، وقرروا التوقف عن الحفر..

فإما أن تقبلوا عذري، وتعطوني أجري، وإلا أفوّض أمري إلى الله.

سعد: هوّن عليك، يا رجل.

أجرتك هذه بين يديك، هذا ألف، تكملة أجرتك في البئر الأولى. التي تعثر العمل فيها..

عابس: أخلف الله عليك، وجزاك الله عنا خيرًا..وأنا، لا زلت رهن إشارتكم.. وبين أيديكم.

سعد: موعدنا غدا عند البئر..وإن غدا لناظره قريب.   

 يتبع..


[ الحلقة:٤٦]

عندما رجع ناصر وعابس من مجلس سعد.. وبينما هما في طريق العودة إلى الدار.. شاهدا نارا بجانب الطريق..

عابس: أرى أن هذه النار لغريب نزل هنا، فما من أحد من أهل القرية مقيم بهذا المكان 

ناصر: صدقت، دعنا نستطلع الخبر.

يسيران باتجاه النار، ثم ينادي ناصر: يا أهل الضوء.. فيجيبه رجل: نعم.. من هناك؟

ناصر: من أنت؟

الرجل: غريب مسافر..

ناصر: هل تأذن لنا..

الرجل: على الرحب والسعة..

يسلم عابس وناصر، ويرد الغريب السلام.

تفضلا بالجلوس. من أنتما؟

عابس: نحن من أهل البلد، هذا ناصر وأنا عابس، ولكن أنت ما خبرك؟

قلت لكما : غريب مسافر آواني الليل إلى هذا المكان..

ناصر: أنت ضيفنا.. إذن، قم، هيا معنا.

الرجل الغريب: إلى أين؟

إلى دارنا فهي ليست بالبعيدة ، نكرم ضيافتك..

جزاكما الله خيرًا.. ولكنني الآن مرهق من السفر، وقد تناولت طعامي قبل قليل ، وسوف أجيب دعوتكما  في الغد إن شاء الله.

ناصر: كما تشاء.

عابس: هل تأذن لنا بالسمر معك قليلا..

الرجل الغريب: على الرحب والسعة..

ناصر: أنت ضيفي غدًا، ولكن ألا يتكرم الضيف فيخبرنا من هو؟ وماهي وجهته..؟

الرجل الغريب: اسمي فالح، وأنا رجل جوال في الديار، 

واشتغل بصناعة البارود.

عابس: ماذا قلت: صنع البارود..؟!!   

 يتبع...


[الحلقة :٤٧]

فالح: نعم، ألا تعرف البارود..؟

عابس: قد سمعت عنه، ولكنني لا أعلم حقيقته واستخدامه.

فالح: يستخدم لتفجير الصخور.

عابس: ماذا تقول؟ تفجير الصخور..؟!

فالح: نعم، ولكن ما الغريب في الأمر..؟

ناصر: أنت ضيفنا، وأنت طلبتنا قد ساقك الله إلينا.. 

نستودعك الله.  

عندما تصلي الصبح.. توجه إلى الدور.. وأقربها هو داري.. تجدني بانتظارك.

فالح: إن شاء الله.

بعد أن ابتعدا عنه، قال عابس لناصر: هل سمعت ما قال الرجل الغريب؟

ناصر: قد سمعت والله كلامه عن أمر نحن في أمسِّ الحاجة إليه، كأن الله قد ساقه إلينا.

عابس: أظن يا أبا حاتم أن البارود يصلح لتفجير الصخور التي في البئر.

ناصر: نعم، نعم ، وأنا أظن ذلك. ولكن دعنا نستوضح منه غدًا..

عابس: إن شاء الله.

لقد بات عابس يحدث نفسه عن تفجير الصخور.. للاستمرار في حفر البئر لعله ينجز عملية الحفر المتعثرة منذ مدة.

وما إن صلى صلاة الصبح حتى توجه إلى دار ناصر.. ولما وصل: سلًم وأستأذن .. فرحب به ناصر.. 

ثم قال: يا أبا حاتم، هل ترى أن نعرض على الرجل المشاركة في حفر البئر، أو نسأله هل باستطاعته تفجير الطبقة الصخرية؟

ناصر: هذا رأي جيد.. ولكن بعد أن نكرم ضيافته..

عابس: كما تحب يا أبا صالح..

يضحك ناصر ويقهقه.. من أنا؟ أنا أبو صالح؟

عابس: المعذرة هذا الأمر أدهشني. حتى أني لم أذق طعم النوم  ليلة البارحة..

ناصر: ها هو الضيف قد أقبل..

مرحبًا.. مرحباً..، تفضل..

الضيف: السلام عليكم..

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

ناصر: حياك الله يا ضيفنا العزيز.

بعد الترحيب بالضيف ينادي ناصر ولده حاتم: أين أنت؟

حاتم : ها أنا ذا، أمرك يا أبي.

ناصر: هل جهزتم الطعام؟

حاتم: نعم.. الآن يكون بين أيديكم..

يرحب ناصر بضيفه وبعابس: حياكم الله.. بسم الله..

يتناول الجميع الطعام..

أما سعد وابنه صالح فقد توجها باكرًا إلى الوادي للوقوف على البئر، ومعرفة الأمر الذي أخبرهم عنه عابس ليلة البارحة. ولم يكن لهما علم بما حصل لعابس وناصر مع الرجل الطواف فالح..

انتظرا عند البئر بعض الوقت، وإذا بعابس وناصر ومعهم رجل ثالث قد أقبلوا عليهما..

يتبع...


[الحلقة:٤٨]

سعد يسأل ابنه: من هذا الذي مع ناصر وعابس، يا صالح؟

فيجيبه ابنه: لا أعرفه، ولم أره يا أبي في بلدتنا من قبل.

ربما يكون عاملاً من عمال عابس.

وصل الجميع.. سلموا ورد سعد السلام..

 ثم سأل: من هذا الأخ الغريب معكم..

عابس: رجل طواف مرّ بالقرية ليلة البارحة.

صالح: حياه الله، ولعله سيعمل معكم في الحفر؟

ناصر: نعم ، وقد أخبرنا أن يجيد صناعة البارود.

سعد: وما هو البارود؟.

فالح: البارود.. مادة تصنع من فتات الصخور والملح وورق بعض الأشجار، تخلط بمقادير معلومة وتطحن بعناية وحذر.

سعد: حسنًا، وهل يمكنك استخدامه لتفتيت صخور اعترضتنا في هذه البئر..؟

فالح: هذا عملي ، وسأبذل جهدي.. ولكن اشترط أن أجرتي أجرة عاملين عن كل يوم..

ناصر: ماذا تقول: أجرة عاملين عن كل يوم؟ هذا كثير.

فالح: لا ألومكم، لأنكم لا تعلمون الوقت اللازم لتوفير كمية كافية من البارود لعمل يوم واحد...وأما الجهد فستدركونه فيما بعد.. ناهيكم عن التعرض لخطر التفجير..

عابس: حسناً، حسناً، ومتى ستباشر العمل؟

قد احتاج ثلاثة أيام أو أكثر لتحضير الكمية اللازمة من البارود، ثم  أبدأ العمل داخل البئر بعدها إن شاء الله.

ناصر: ألا تخشى أن تتهور البئر بعد التفجير؟

فالح: أسأل الله السلامة والحفظ. 

البئر كما نرى طبقة صخرية قوية من المستبعد أن تتهور.

سعد: إذن توكلوا على الله.

عاد الجميع وتركوا عابسًا وعماله ومعهم فالح يعملون.

يتبع...


[ الحلقة:٤٩]

في مساء ذلك اليوم حضر الجميع مجلس سعد، وبعد أن تناول الجميع القهوة .

قال ناصر : هل لك يا أبا صالح أن تروي لهم قصة شيقة أو خبرًا  فيه فائدة أو تسلية  لنا عن مشكلة تعثر العمل في حفر البئر للمرة الثانية..

فأجابه سعد قائلا:أبشروا، سأروي لكم قصة طريفة لثلاثة  فتيان كانوا يرعون البقر في الليل، وافتقدوا منها مجموعة دون أن يشعروا بذلك.

يواصل سعد كلامه فيقول : كان هؤلاء الفتية بني عمومة، يقال لهم :محمد وحسن وصالح. يعيشون مع أهلهم في قرية جميلة وادعة، يشتغل أهلها بالزارعة وتربية الأنعام من الإبل والبقر والغنم. وفي إحدى الليالي سرى هؤلاء الفتية يرعون البقر العوامل آخر الليل، لأنها تعمل في الحرث نهارًا.

خرج محمد وحسن برعيتهما من البقر، وتأخر صالح عنهما، فذهب محمد لمساعدته في إطلاق بقره من مرابطها.. وظل حسن ينتظرهما .. ثم لما اجتمعوا ساقوا البقر جميعاً باتجاه المرعى، وكان الظلام حالكا.. ولما وصلوا المرعى، قام كل منهم يطلق الفِدام عن بقره.

تعرفون الفدام؟

ناصر: نعم، شبكٌ يصنع من الحبال يوضع على فم الدابة يمنعها من الأكل.

يتابع سعد القصة فيقول: نعم هو كذلك.

ولكن محمدًا لم يجد بقره، فسأل  حسنًا عنها، فقال: لا أدري، كنت أظنها مع بقري لما ذهبت أنت لمساعدة صالح، فلما وصلتم عندي سرنا معاً، فلعلها قد انخزلت عندما كنت أنتظركم، أو ضاعت منا في الطريق.

القصد أنهم فقدوا بقر محمد، وبحثوا عنها فلم يعثروا عليها. ثم اشعلوا خشبة كبيرة يستدفئون بها، فأما حسن وصالح فغطا في نوم عميق، وبات محمدٌ ساهرًا يتململ، حتى إذا انشق الفجر انطلق يبحث عن بقره في كل مكان، لم يترك مرتفعًا من الأرض إلا صعده، ولا وادياً إلا هبطه.

 قطع مسافة كبيرة في البحث، وقد ظهر نور الصباح، إلا أن الشمس لم تشرق بعد. وقد بلغ به التعب مبلغًا عظيمًا، ويأس أن يجد البقر، فازداد همًا وغمًا، ..

يتبع...


[ الحلقة:٥٠]

.. يواصل سعد كلامه عن قصة ضياع البقر.. فيقول:

عندما يئس محمد أن يجد البقر، اتجه نحو قريته يمشي مشغول الفكر.. ولما اقترب من الدور وشارف على الوصول.. هبط من كثيب على مزرعة في طريقه..

 وبينما هو يمشي مطأطأً رأسه.. إذا به يحس صوتًا عن يمينه وسط الزرع.. فالتفت فإذا أمر لا يُصدّق، ولا يخطر بباله..

ناصر: خيرًا ، عسى أن لا يكون عدى عليه سبعٌ أو..؟

سعد: لا، لم يكن  شيء من ذلك.

وإنما وجد البقر قد نفشت في تلك المزرعة..

أتدرون لمن تكون تلك المزرعة؟

الجميع: لا، لا ندري.

سعد: إنها مزرعة والد صالح الذي كان معه البارحة وساعده في إطلاق بقره، بينما كان حسن ينتظرهما..

لم يصدق محمد ما رأى، فأسرع يسوق البقر ويضربها لتخرج من المزرعة.. يخشى أن يراها أحد فيخبر صاحب المزرعة فيعقلون بقره.. 

ساق البقر في طريق متعرج حتى لا تُعرف أثارها.. ونجا بحمد الله.

عابس: لو تأذن لي يا أبا صالح بسؤال:

سعد: تفضل، سل عما شئت.

عابس: وصاحباه ، ماذا صنعا؟

سعد: لم يعلما بما حصل لمحمد.

فكلٌ منهما كان مشغولاً ببقره ونفسه.

صالح : أبي أكرمك الله ، ماذا تعني بقولك: (نفشت البقر)؟

يتبع...


    الفصل السادس، الأخير.

         [الحلقة:٥١]

ثم سأل سعد ابنه صالحًا: هل قرأت سورة الأنبياء يا بني؟

صالح: نعم يا أبي..

سعد: ألم تجد هذه الكلمة فيها؟

صالح: لعلك يا أبي تقصد كلمة ( نفشت).؟ نعم، هي في قصة داود وسليمان عليهما السلام .

سعد: اقرأ علينا الآية حفظك الله.

صالح: أمرك يا أبي.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَداوودَ وَسُلَيمانَ إِذ يَحكُمانِ فِي الحَرثِ إِذ نَفَشَت فيهِ غَنَمُ القَومِ وَكُنّا لِحُكمِهِم شاهِدينَ﴾.

قال أبوه: معنى نفشت الغنم أو البقر: أي رعت ليلاً، بغير راعي.

صالح: رفع الله قدرك يا أبي.. إذاً فإن بقر محمد نفشت في مزرعة ابن عمه صالح ورعت فيها فأكلت زرعهم.

ناصر: جزاك الله خيرًا يا أبا صالح: وأنا أود أن أعرف معنى قول الله تعالى:{وَقالوا رَبَّنا عَجِّل لَنا قِطَّنا قَبلَ يَومِ الحِسابِ}

ما هو المقصود بقولهم: (قِطنا)،،هل هو القط الحيوان المعروف بالهر أيضًا ؟

سعد: لا. معناه هنا: النصيب، والحظ. فإذا تلونا الآية بتمعن نعرف معناها من سياق الكلام. يقول تعالى: ﴿وَما يَنظُرُ هؤُلاءِ إِلّا صَيحَةً واحِدَةً ما لَها مِن فَواقٍ* وَقالوا رَبَّنا عَجِّل لَنا قِطَّنا قَبلَ يَومِ الحِسابِ﴾. فالله يهدد مشركي قريش بأن تأخذهم صيحة عذاب متصلة بلا انقطاع.  ولكنهم من سفههم وعنادهم قابلوا ذلك بتعجيل نصيبهم وحظهم من العذاب استبعادًا منهم وإنكارًا له، فكأنهم يقولون : إن كان هذا العذاب الذي توعدنا به يا محمد حقا فعجّل لنا قسمنا ونصيبنا منه.

وقولهم هذا تكذيب منهم بعذاب الله، كما قال تعالى عنهم: ﴿وَإِذ قالُوا اللَّهُمَّ إِن كانَ هذا هُوَ الحَقَّ مِن عِندِكَ فَأَمطِر عَلَينا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائتِنا بِعَذابٍ أَليمٍ﴾.

ناصر: نعوذ بالله من الكفر والتكذيب والعناد..

ثم يلتفت سعد إلى عابس فيسأله: ماهي أخبار فالح صاحب البارود..؟

 يتبع....


[الحلقة:٥٢]

فأجاب عابس على سؤال سعد بقوله: أراه كل يوم يتجول بين أشجار الوادي مرة، ويذهب إلى الحرّة مرة أخرى. أظنه مشغول بتحضير البارود..

وقد سألته كما سألتني : متى تبدأ في العمل، فأخبرني أنه يحتاج لثلاثة أو أربعة أيام على أقل تقدير لينتهي من تحضير المقدار اللازم له من البارود.

سعد: وبقية عمالك متوقفون عن العمل؟

عابس: ماذا نفعل..؟ لم يكن لنا بُدٌ من التوقف.. حتى ينجز فالح مهمته في تفجير الصخرة بقاع البئر..

ثم يوجه سعد كلامه لصديقه ناصر يا أبا حاتم !

ناصر: نعم.

سعد:. لي نية ورغبة مُلحة في السفر لزيارة المسجد النبوي، وأريد منك أن تبقى مع عابس وفالح وتراقب العمل، قد يحتاجون لك..

ناصر: أبشر يا أبا صالح، فهذا واجب عليّ.

يستأذن الجميع بالانصراف من دار سعد... 

و يتهيأ سعد للسفر..

وفي صبيحة اليوم التالي يودع سعد أهله وجيرانه: استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

صالح: نستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك يا أبي..

يدخل صالح الدار حزينا لفراق والده.. تلاحظ ذلك عليه أمه، فتسأله:

ما بك يا صالح؟ أراك حزينًا؟

صالح: لا شيء يا أمي، إنما ذلك بسبب فراق أبي.

يتبع....


[ الحلقة:٥٣]

أم صالح: يا بني أنت رجل يعتمد عليك أبوك، لا يصلح منك الحزن لفراقه وسفره.

ألم يسافر قبل عام إلى مكة للعمرة؟

وسافرت أنت لبيع محصول مزرعتنا من التمر.. ثم بعت سيفك هناك بثمن طيب والحمد لله، وتبرعت بقيمته لحفر آبار القرية.. فكن رجلاً، يا ولدي.

صالح: أمركِ يا أماه.!

ولكن هل تأذنين لي بأن أزور خالي عبد الرزاق غدًا، لقد اشتقت له كثيرًا.

أم صالح: لا بأس، ولكن لا تنس أن تبلغه مني السلام.

أبشري يا أمي، حفظك الله وأعانني على برك أنت وأبي..

أم صالح: لتكن زيارتك لخالك بعد أن تتفقد العمل في البئر، وتقف بنفسك عليه.

صالح: حباً وكرامةً يا أمي.

… 

في صبيحة اليوم التالي لسفر سعد.. ذهب ابنه صالح كما طلبت منه أمه أن يتفقد العمل في البئر..

ولما وصل ..لم يجد أحدًا من العمال هنالك.

فتوجه لدار ناصر.. ووجد عابسًا عنده ..أستأذن..

صالح: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يرد الجميع السلام.. ثم رحب به ناصر.

فقال صالح.. مررت قبل قليل بالبئر، فلم أجد أحدًا من العمال يعمل في الحفر.. وهذا عابس أراه جالسًا عندك ياعم ناصر، ما الأمر؟

ناصر: ألا تعلم أننا وجدنا رجلاً خبيرًا بصنع البارود..

صالح: وما علاقة هذا بالحفر؟

عابس: هذا الرجل يعمل في حفر الآبار في المناطق الجبلية والصخرية و يستخدم البارود لذلك.

صالح: حسنًا فهمت الآن، لكن لماذا توقفتم أنتم عن العمل.؟

يتبع....


[الحلقة:٥٤]

... لما كان صالح في دار ناصر سأل عابسًا عن سبب توقف الحفر للبئر..

فأجابه بقوله: الرجل الذي يحضّر البارود يحتاج من ثلاثة إلى أربعة أيام لينتهي من عمله فنحن ننتظره.

صالح: حسناً، نسأل الله أن يسهل أمرنا، فقد تعثر الحفر في البئر الأولى، فعسى الله أن يعوضنا في هذه خيرًا..

فيرد الجميع: آمين.

بعد ذلك أستأذن صالح من ناصر وذهب إلى دار خاله عبد الرزاق.

ولما وصل إلى هناك رحب به خاله وأكرم زيارته.. وسأله عن أبيه وعن أمه، وأحوالهم.

فأخبره صالح أن أمه بخير،  وهي تقرئه السلام، وأن أباه قد سافر لزيارة المسجد النبوي.

مكث صالح عند خاله إلى ما بعد العشاء، وهو في غاية السرور بمحادثة خاله، 

فقد حفلت تلك الجلسة بحكايات رائعة مفيدة ، رواها لهم خاله عبد الرزاق.

ومنها حكاية نادرة في الجود والزهد معا، تلكم هي حكاية رجل صالح يدعى الشيخ محمد، جاءه ذات مرة رجل من أهل بلده يعرض عليه قطعة زراعية يريد بيعها منه، وقد كان هذا الرجل فقيرًا، ويريد الاستعانة بقيمتها على زواجه، فتم بينهما البيع وقبض الرجل الثمن. 

وبعد مدة جاء عامٌ خصبٌ وزرع الشيخ محمد تلك القطعة التي اشتراها من الفقير.. وقد كان المحصول الزراعي منها مباركاً وفيرًا. فدعا صاحبها الأول، فلما جاء رأى الشيخ وعماله والمحصول من الحَب الذي حصده في صُبرة كبيرة بين أيديهم، فقال الشيخ محمد لأحد عماله: خذ الصاع وكِل الحب ، واحسب ما تكيل، فأخذ في الكيل والعد حتى بلغ ما شاء الله منه، فقال الشيخ للعامل الذي يكيل الحب توقف.

وقد بقي من صبرة الحب مقدرًا طيبًا قرابة الثلث. 

فقال :كم سعر الصاع اليوم؟ 

فقيل: كذا وكذا.

 فقال الشيخ: لصاحب الأرض ما اكتلناه هنا من الحب سعره بقدر الثمن الذي اشتريت منك به قطعة الأرض، وبقدر تكلفة حرثها، وما بقي من الحب فهو لك،  ومزرعتك مردودة عليك .

فاستغرب الرجل هذا الفعل، وقال: يا عم محمد : أنا بعتك بيعًا صحيحًا ، ولست نادمًا، ولا مغبونًا ولا طالب إقالة. 

فرد عليه الشيخ محمد: صحيح وأنا أعرف ذلك، ولكنني يا ولدي لا اشتري من المحتاج الذي أعوزته الحاجة لبيع ما يعز عليه. وإنما اشتريت منك لأقضي حاجتك، وقد استوفيتُ حقي، فخذ مزرعتك وما بقي من الحب، بارك الله لك فيها.

 فلما انتهى عبد الرزاق من هذه الحكاية أُعجب صالح بكرم هذا الشيخ ونبله وزهده .

ثم أستأذن ليعود إلى دارهم.

فطلب منه خاله أن يبيت عندهم قائلا له: إن الوقت شتاء والهواء بارد ..وأخشى عليك من البرد.

فاستحى صالح أن يبيت عندهم وأصرّ على العودة ليلاً.. 

ودّع خاله.. وعاد إلى داره.. وعندما وصل توضأ لصلاة الوتر.. فأحسن ببرودة الماء والهواء.. وكان البرد قارسًا..

بعد الصلاة ذهب إلى فراشه ونام.. نومة يسيرة ثم استيقظ وظل يتقلب ويرتعش وهو يشعر بالبرد الشديد.. ولم يكن يدرك أنها بوادر الحمى..

استيقظ الناس في الصباح، ولم يستيقظ صالح، افتقدت أمه صوته، فأتت توقظه..

صالح.. صالح..!قم، هل صليت الفجر..؟

صالح يجيب بصوت خافت: صليت هنا في البيت، ولم استطع الذهاب للمسجد.

أم صالح: أصلح الله حالك، ولِمَ يا بني؟

صالح: أشعر بتعبٍ وبردٍ شديدين.

تقترب أمه منه وتضع يدها على جبهته، فتشعر بحرارة جسده.. فتقول: يبدو أنك قد أصبت بالحمى.. لا بأس عليك طهورٌ إن شاء الله.

مضت يومان منذ أصيب صالح بالحمى.. وأمه تطببه، وتسهر كل ليلة إلى جانبه. 

وفي اليوم الثالث اشتد مرضه حتى أصبح يهذي من وطأة المرض، ويغمى عليه مرة ويفيق أخرى. 

يتبع..


[ الحلقة:٥٥]

أما ما كان من أمر سعد والد صالح فإنه لما وصل المدينة صلى بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم. 

ثم بعد أن فرغ من الصلاة تقدم حتى وقف أمام القبر الشريف: فقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. أشهد أنك عبد الله ورسوله، وأنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده، فجزاك الله عنا خير الجزاء.

ثم تقدم إلى اليمين قليلاً فقال: السلام عليك يا أبا بكر الصديق ورحمة الله وبركاته. السلام عليك يا خليفة رسول الله..

ثم تقدم وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ورحمة الله وبركاته.

بعد ذلك توجه إلى القبلة ودعا الله بما فتح الله عليه..

ثم حضر بعد ذلك بعض مجالس العلماء واستفاد علماً وخيرًا كثيرا.

وزار مسجد قباء وصلى فيه.

مكث عدة أيام ثم عاد إلى بلدته، ولما وصل وجد ابنه صالحا مريضًا قد اشتد مرضه، فلم يكن لقدومه كبير فرح بسبب انشغال الجميع بمرض صالح..

لقد تكدر خاطر سعد كثيرًا لذلك.. حتى عُرف في وجهه.. ولكنه حمد الله ودعا لأبنه بالشفاء.

ولم ينس أمر البئر، فسأل عنها فقيل له: لم يستجد شيء بعد.

وفي مساء اليوم الذي وصل سعد فيه.. اجتمع عنده الأقارب والجيران للسلام عليه.. وفي مقدمتهم صديقه الحميم: ناصر، وعبد الرزاق خال أولاده، وعابس...

رحب بهم سعد وأكرمهم..

...

 ثم تجاذبوا أطراف الحديث ..فمن ذلك أن عبد الرزاق سأله قائلا: يا أبا صالح حدثنا عن رحلتك إلى طيبة.. وماذا حصلت من خير في زيارتك.

فقال: لا شك أن من يزور المسجد النبوي وطيبة يجد هناك راحة وأنسا عظيما وبركة غامرة.. فالحمد لله، وأسأله سبحانه القبول.. والتوفيق لطاعته.

تيسر لي حضور بعض مجالس العلم في المسجد النبوي، وحصلت خيرا كثيرا..

ناصر: أعطنا مما أعطاك الله مما تتذكره من الفوائد العلمية جزاك الله خيرا.

سعد: ابشروا.. وأديروا القهوة ، وتناولوا من هذا التمر، 

ثم سألهم : من منكم يعرف اسم هذا النوع من التمر؟

فقال ناصر: أظن أنه: العجوة.

فقال سعد: لم تصب. 

وكلٌ يذكر اسماً، ولم يوفق لمعرفته، فلما عجزوا، سألوه : ما اسمه يا أبا صالح: فقال: هذا هو التمر البرني.

ثم أخذ يحدثهم فقال: حضرت ذات ليلة درسًا وكان الشيخ يحدث عن فضل الصلاة في المسجد النبوي، فسمعته يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم :"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ".  ( رواه البخاري ومسلم).

وحدثنا عن بعض فضائل المدينة فذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهلها فقال:" .. اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ ".(رواه البخاري ومسلم)..

يواصل سعد أخبار زيارته للمدينة..

فيقول:

تعلمون أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تجارة رابحة، وسكنى المدينة غنيمة عظيمة..

أحد الحضور: شوقتنا فزدنا زادك الله من فضله. 

يتبع..


[الحلقة:٥٥]

قال سعد: ومرة حضرت مجلساً في تفسير قول الله تعالى:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.

قال ابن كثير رحمه في تفسيره أي : ( وأنذرهم) أي: أنذر الخلائق يوم الحسرة ، 

( إذ قضي الأمر ) أي : فُصِل بين أهل الجنة وأهل النار ، ودخل كلٌ إلى ما صار إليه مخلدا فيه ، ( وهم ) أي : اليوم في غفلة ( عما أنذروا به ) (وهم لا يؤمنون ) أي : لا يصدقون به . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار  النار ، يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة ، هل تعرفون هذا ؟ قال : " فيشرئبون فينظرون ويقولون : نعم هذا الموت " . قال : " فيقال : يا أهل النار ، هل تعرفون هذا ؟ قال : فيشرئبون فينظرون، ويقولون : نعم، هذا الموت "قال:" فيؤمر به فيذبح ".

قال : " ويقال : يا أهل الجنة ، خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت " .

قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة ) وأشار بيده قال : " أهل الدنيا في غفلة" .

هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما".

فسأل عابس ما معنى : (يشرئِبون)؟

 فقال: أي: يرفعون رؤوسهم ويمدون أعناقهم ينظرون.. 

وبعد أن استمعوا لتلك الفوائد، انتهى سمرهم، وشكروا سعداً، ثم استأذنوا بالانصراف.

وفي صباح اليوم التالي ذهب سعد لمشاهدة ما وصل إليه الحفر في البئر..

يتبع..



[الحلقة:٥٧]

ولما وصل إلى موقع البئر سلّم، وسأل فالحًا صانع البارود فقال له: هل باشرت العمل أم لا تزال في تحضير البارود..؟

فقال فالح: انتهيت من التحضير واليوم في آخر النهار أو في صباح الغد إن شاء الله أبدا بالتفجير.. بعد أن انتهي من كبسِ البارود داخل الصخور..

سعد: أعانكم الله..

ثم انصرف سعد وعابس وبقي فالح في مهمته..

وفي أثناء سيرهما في الطريق.. عرّجا على دار ناصر.. فلما وصلا إليه، رحب بهما ودعاهما لتناول طعام الإفطار معه.. فقبلا الدعوة.. وشاركاه الطعام..

يصف عابس تلك الوجبة فيقول: منذ وقت طويل لم أتناول طعامًا لذيذًا كهذا.. هل تعرّفنا يا سعيد ماذا نأكل؟.

ناصر: إن أعجبك الطعام فكل بالهناء، وإلا فدعه، ودعنا من عباراتك الفارغة..

سعد: ما ينبغي لك يا أبا حاتم أن تجابه ضيفك بمثل هذا الكلام، فالرجل لم يقل ما يستدعي منك هذا التوبيخ، ولا تنس أنه ضيفك وفي منزلك..

ناصر: أنت لا تعرف يا أبا صالح ما يقصده عابس بكلامه، إنما هو ذم في صورة مدح..

سعد: لم يظهر لي ذلك، ومهما يكن من أمرٍ فقد كدّرت معروفك..

سعيد: أراك محاميًا عنه يا أبا صالح.؟!

...

فجأة  غادر سعد وعابس دار ناصر دون استئذان..

ولما ابتعدا عن المنزل، سأل عابس سعدًا: ما بال ناصر اليوم يرمي بالكلام على عواهنه.. ويسيء إليّ ، وأنا في داره..؟

سعد: ليس ذلك من عادته، والمهم أن لا نغتاب الرجل.. وأن نلتمس له عذرا..

يفترقان ، ويتجه كلٌ منهما إلى داره..

يتبع..


[ الحلقة:٥٨]

أما ما كان من ناصر فإنه قد ندم على ما بدر منه من سوء المقال لعابس..

فذهب إلى دار عابس قبيل الظهر،،

ولما اقترب نادى عابساً..

وما إن سمع عابسٌ صوته حتى عرفه، فخرج إليه مبادراً: مرحباً بأخي العزيز، تفضل على الرحب والسعة.. تفضل يا أبا حاتم.

لكن ناصر.. رفض أن يدخل وطلب من عابس أن يقابله خارج الدار..

عابس: ما هذا يا رجل.. أدخل.. فأنت بمثابة أخي الكبير.. تفضل.

خجل ناصر فدخل الدار.. وهيأ له عابس مجلساً وثيراً.. فجلس.. وعابس لا يزال: يكرر عبارات الترحيب..

ولقد كان لهذه الحفاوة والتكريم أثرٌ كبيرٌ في نفس ناصر.. وخجل من تصرفه بكرة النهار مع عابس..

ناصر: أخي عابس، الحقيقة إنما جئتك معتذراً عما بدر مني في حقك اليوم ولست زائرا..

عابس: هوّن عليك يا رجل، فلقد عذرتك من تلك الساعة.. و والله ما وجدت عليك في نفسي شيئًا..

ناصر: لله أنت!.. فنِعم الصاحب والجار. أتأذن لي بالانصراف ..

عابس: كما تحب، ولكن بعد أن تتناول معي طعام الغداء..

ناصر: يضحك، ويقول:لعلك تريد المقاضاة عاجلاً..

عابس: معاذ الله.!

هذا أذان الظهر.. بعد الصلاة نعود ويكون الطعام حاضراً. فتكرمنا بالمشاركة فيما يسر الله.  ولن نتكلف غير طعامنا المعتاد.. 

ناصر: بارك الله فيكم..

ذهبا للصلاة وعادا.. وقد وجدا الطعام قد جهّزته سلمى زوجة عابس.. على أكمل ما يكون من الترتيب..

عابس: حياك الله يا أخي الغالي.. شرفتنا اليوم.. أسعدك الله.

ناصر: لا أدري ما أقول.. ولكن. بسم الله..

كان الطعام شهيًا ولذيذاً أكثر من طعام منزل ناصر..

بعد أن فرغوا من الطعام وحمدوا الله قال: ناصر: أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصليت عليكم الملائكة.

ناصر: عابس أريدك خارج الدار  في أمر. 

يمشي عابس وناصر خطوات يسيرة.. ثم يقول ناصر: اسمع مني كلمة يا عابس: زوجتك هذه امرأة صالحة كم صبرَتْ عليك، وأحسنتْ رعاية أمك، فاتق الله فيها وأحسن إليها، فإن أمثالها اليوم في النساء قليل.

عابس: ابشر. وجزاك الله عنا خيرا.. 

وقبل أن يفترقان إذ بهما يسمعان صوت صراخ من بعيد..

يتبع...



[ الحلقة:59]

عابس: ما هذا الصوت يا أبا حاتم ؟

ناصر: لا أدري..! دعنا نذهب صوبه لنتبين مصدره، وسببه. 

عابس: هيا بنا..

انطلقا يمشيان مسرعين.

ثم أخذا الطريق بهما نحو دار سعد. 

وفي الطريق..

ناصر: يبدو يا عابس أن الصوت آتٍ من دار سعد!

عابس: نعم. اللهم خيراً..

ولما اقتربا من دار سعد لاحظا حركة أناس يدخلون ويخرجون وأصوات نساء يبكين..

ناصر: لابد أن مكروها حصل لأحدهم.. ربما يكون صالح....

ولما اقتربا، نادى ناصر بصوت مرتفع مهزوز. يا سعد..! 

يا أبا صالح.!!

يجيبهم سعد، ويخرج إليهم عاصبًا رأسه: نعم.. نعم.

عابس: ما بكم.. ما هذا الصوت الذي نسمع..

سعد: بصوت الصابر المحتسب، توفي ابني صالح رحمه الله قبل قليل..

ناصر: إنا لله وإنا إليه راجعون. اصبر واحتسب، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.

سعد: الحمد لله، رضينا بقضاء الله وقدره.. اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها..

تعالت أصوات البكاء في مختلف جهات البلد.. 

ولقد وصل الخبر إلى جميع الدور.. فأقبل الرجال إلى دار سعد وفي مقدمتهم عبد الرزاق خال صالح.

فقامت مجموعة منهم بغسل الميت وتكفينه، بينما انطلقت مجموعة أخرى.. تهـيئ القبر..

بعد أن فرغوا من الغسل والتكفين قدموا عبد الرزاق خال صالح للصلاة عليه، فكان من دعائه للميت: 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ".

ثم احتمل الرجال الجنازة، وتوجهوا للمقبرة..

فلما وصلوا المقبرة.. وجدوا القبر قد جُهزَ، فدخل القبر سعد أبو صالح وخاله عبد الرزاق، وتناولا الجنازة.. ثم وضعاه على جنبه الأيمن مستقبلا القبلة ..وحلا رباط الكفن ثم صففا عليه الِلبن.. وأُهيل عليه التراب.

انتهت مراسم الدفن ثم أقبل الناس يعزون سعدا وذويه في وفاة الأبن الصالح، صالح..

ثم تكلم ناصر فقرعت كلماته قلوب الحاضرين قبل أسماعهم..

يا سعد: إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى. اصبر واحتسب..

وتذكر قوله الله تعالى:{..وَبَشِّرِ الصّابِرينَ*الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ*أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ}. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ. فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ. فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ اللَّهُ : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ ".

سعد: الحمد لله.

انصرف الجميع من المقبرة.. وعاد سعد إلى داره يمشي بخطًى ثقيلة.. وفكر شارد.. حزنا لفراق ولده.. ثم قال لنفسه. الحمد لله ، الصبر أجمل والثواب عظيم..

ولما دخل البيت وجد أم صالح في حالة عصيبة يكاد قلبها يذوب حزنا على ولدها، فعزاها بقول النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم:" إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"..

فقالت أم صالح: الحمد لله إيمانا بقدره ورضا بقضائه، الحمد لله...

يتبع..


    [الحلقة الأخيرة:٦٠]

عمّ خبر وفاة صالح البلد.. وحزن الجميع..

حتى أنّ الشباب من رفقاء صالح اجتمعوا الليلة الثانية بعد الوفاة في منزل عبد الرزاق خال صالح.. وكان في مقدمتهم : راشد بن عبد الرزاق، ابن خاله.. وحاتم بن ناصر..

تذاكروا رحيل صديقهم صالح.. وعِظم المصيبة بفقده التي أحس بها الكبير والصغير..

أستأذنهم حاتم فقال:

أما صالح يا أخوتي فنحسبه من خيرة أبناء البلد، كما عرفتموه.. 

وقد رحل إلى رب كريم.. نسأل الله أن يدخله الجنة، وأن يعيذه من عذاب القبر ومن عذاب النار.

 والموت حق على الخلق، وهنيئًا لمن لقي ربه وهو مؤمن، وقدّم عملاً صالحاً.

ولكنني أسألكم جميعًا: ماهي الأسباب التي جعلت صالحًا محبوبًا من الجميع، وقد شَعرَ كلُ أهل البلد بفقده.. وهو شاب مثلنا..؟

فأجابه: راشد: يا أخي،هذا فضل الله يؤتيه من يشاء..وقد رزق اللهُ صالحًا الإخلاص والصدق وحب الخير للناس.. 

وكلنا نعلم أنه باع سيفه وجعل قيمته ثمنًا لحفر آبار الماء ليرتوي منها أهل البلد.. وقد تم حفر اثنتين..نعم تعثر الحفر في الأولى. فتُركت وطمرت.. ثم شُرِع في البئر الثانية..ندعوا الله ونرجوه أن يعوضنا خيراً..

الجميع:نعم،نعلم ذلك.. والغريب في الأمر أنه شاب مثلنا ولكنه كان صاحب هِمةٍ عالية، فقد شغل وقته بالعمل النافع الجاد.. في البيع والشراء، وطاعة والديه وبرهما، فلا عجب أن يثني عليه الناس خيرًا. 

… 

في صباح اليوم الثالث..باشر العمال الحفر مع عابس..وقد جهّز فالح كمية البارود التي ي يدها. 

ثم أخذ ينقب في طرف تلك الصخرة الصلبة بأدوات خاصة معه،فلما فرغ ملأ ذلك النقب بالبارود، ولما تأكد من ترتيبه كما يريد طلب من العمال أن يخرجوه بعد أن ربط الحبال في وسطه.

ثم أمر العمال بالابتعاد عن البئر.. أما هو فقد ربط حبلاً بصخرة غطّى بها موضع البارود عندما كان أسفل البئر.. وأخذ طرف الحبل بعيدًا ، ثم بعد أن تأكد من ابتعاد العمال جميعًا.. أشعل النار في طرف الحبل الذي بيده، فسرى اشتعال النار في الحبل النازل إلى قعر البئر حتى وصل منطقة البارود أسفل البئر، فثار.. وانفجر انفجاراً شديداً، مُحدثاً دويًا  صّم الآذان..

ثم انتظر حتى سكنت الصخور المتفجرة ، وخمد الدخان..

ثم أقبل هو وعابس لينظرا النتيجة..

فيا لهول ما رأيا...!  وما شاهدا.. !!

لقد تفتت تلك الصخور، في حين أنها قد أعجزت أقوى العمال،  وتحطمت عليها أشد المعاول..

فرح عابس بذلك كثيراً.. ثم جلس على شفير البئر لحظة وإذا به يرى في قاع البئر شيئًا غريباً له بريق.

فنادى:تعال..، تعال يا فالح ، وانظر.. فإني أرى شيئاً غريبًا  بقاع البئر!

فالح: ما بك يا عابس. ؟

عابس.. تعال انظر! ما هذا؟ 

يركض فالح، وينظر.. ثم يكبر: الله أكبر..! هذا الماء قد نبع بعد أن تفجرت عنه الصخور.

....

 الماء يفور...!!

عابس: لا شك أن هذه عين ماء نبعت بقدرة الله ..انظر الماء يعلو.. ويقترب من فوهة البئر..

الله أكبر.. والحمد لله.. 

في لحظات يسيرة امتلت البئر بالماء ، ثم ها هو الماء بدأ يخرج من فوهة البئر .

فالح: أشرب، وذق الماء يا عابس..

يشرب عابس بكفه: بسم الله. الحمد لله، إنه زلالٌ، ما أعذبه ما أطيبه!

...

ثم ينطلق عابس وفالح إلى دار سعد.. يجريان لا تكاد تلامس أقدامهما الأرض..

اقتربا من دار سعد وهما يصرخان: يا أبا صالح ، يا أبا صالح! الماء.. الماء..

يبادر سعد بالخروج من داره، ويتجه صوب الصوت ويرى فالحاً وعابساً يجريان ويصيحان ولا يتبين مقالهما من شدة الصراخ.. 

وصل إليهما.. هوّنا على نفسيكما: ما بكما..؟

 خيرًا إن شاء الله؟.

عابس: عين.. عين .

سعد: عينُ ماذا؟

فالح، أخبره يا عابس!

عابس: بعد تفجير الصخور بالبارود  بوقت قصير نبع الماء من البئر بغزارة.

سعد: ماذا تقول: نبعُ الماء..؟

فالح وعابس يصرخان معا: عين ماءٍ نبعت تفور فوارناً..!!

سعد: ما الذي أسمع؟   

عابس: هو ما سمعت هيا انطلق معنا..

فينطلق سعد معهم صوب مكان البئر من الوادي..

قبل أن يصلوا إليها..وإذا هم يرون الماء .

سعد: الله أكبر..! الله أكبر.. ! الحمد لله.

خرّ سعدٌ ساجداً شكراً لله.

ثم وقف على طرف ماء العين، واغترف غُرفة بيده فشرب. 

بسم الله.. الحمد لله. 

الحمد لله حمدا طيبا كثيراً مباركاً فيه.

…..

طار  في البلد خبر.. لم يُسمع الناس بمثله…!!! 

نبعت عين من البئر الثانية.!!!

كانت هذه الجملة تتردد على أفواه الجميع وآذانهم.. فمنهم المستبعد ومنهم المستغرب.. والمتعجب، بل و منهم المكذب.

في لحظاتٍ يسيرةٍ وإذا معظم أهل البلد نساءً ورجالاً يقفون على شفير الوادي، وعلى مقربة من البئر، ويرون ماء العين يتدفق ويسيل أمامهم. 

فيهرع الجميع للشرب منه..

فلا تسمع إلا التكبير والتسبيح والتحميد.. الحمد لله.. الحمد لله..!!

كأن القوم في عيد!!

لقد عمت الفرحة بنبع عين الماء البلد كله،، وتحدث بذلك الصغير والكبير، فلا تسمع إلا عبارات الشكر والثناء على الله فرحًا بهذه النعمة التي تفضل الله بها عليهم.

وفي مساء ذلك اليوم اجتمع عدد كبير من أهل البلد بمنزل سعد، يهنئونه بهذه النعمة العظيمة، وقد كانوا قبل أيام قليلة يعزونه في وفاة ابنه صالح.

تقدم ناصر فقال:

أرجو أن تأذنوا لي بالكلام ، وتستمعوا ما أقوله جيداً..

الجميع: قل، فكلنا آذانٌ صاغية.

ناصر: هذه النعمة الجليلة تستوجب منا جميعًا شكر الله تعالى وحمده.

فكم كنا نعاني من العطش وقلة الماء .. والآن والحمد لله فقد أنعم الله علينا بهذه العين..

وتعلمون أن تكلفة حفر البئر الأولى والثانية هي من مال صالح رحمه الله..

الجميع: نعم. نعم، رحمه الله.

ناصر: والآن أرى ، يا أبا صالح أن تدفع لعابس ما تبقى له من أجرته، وهو بدوره يعطي فالحاً أيضاً صاحب البارود أجرته.

سعد: أبشروا.. أبشروا.. 

هذه ألفي دينار بقية أجرك يا عابس.. وهذا ألف أجرة فالح.

يواصل ناصر الكلام فيقول:

وبعد أن أكرمنا الله بهذه العين، وله الحمد، أقترح أن نسميها:

(عين صالح).

الجميع.. أصبت الرأي، وأحسنت المقال..

عابس: وأنا اقترح أن يُوقف كل صاحب مزرعةٍ منا نخلةً تكون وقفاً لصالح بن سعد رحمه الله.

كم مزرعة عندنا بالوادي.. ؟ 

في كل مزرعة نخلة .

وأنا أولكم، أشهدكم أني قد أوقفت نخلة من مزرعتي لصالح يرحمه الله.

تتعالى الأصوات: نصحت مأجورًا، و دللتنا على الخير مشكوراً، موافقون.. موافقون..

ناصر: وأنا أوقفت ثلاث نخلات..

وقام عبد الرزاق وفلان.. وفلان كلٌ يقول : وأنا أوقفت نخلة لصالح رحمه الله..

يطأطئ سعدٌ والد صالح رأسه.. تواضعاً لله وشكراً. ثم يقول: قد سمعت ما قلتم فجزاكم الله جميعا خيراً.

سعد: أين أنت يا أبا حاتم. 

ناصر:  لبيك . 

سعد: هل تذكر الهَمَّ الذي حدثتك عنه قبل مدة..ولم أفصح لك عنه؟ 

ناصر:  نعم وبكل تأكيد،  ولكنك لم تخبرني عن سببه، ولم تبين لي كنهه.

سعد:  صدقت.

فها هو ذا.. همي..

اليوم أفصح لك عنه، ألا وهو حاجة أهل بلدتي وفقرهم وعطشهم..

 وقد فرّج الله ذلك كله وأخرج لنا هذه العين. فيسقي الناس ويزرعون يأكلون، ويشكرون ربهم .

فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله حمدا طيبًا كثيرًا، 

                                                                 انتهى.!

………………………................

محمد بن علي بن محمد الشيخي

١٢ / ربيع الثاني/ ١٤٤١






















هناك تعليق واحد:

  1. درة أدبية ثمينة، والإبداع فيها واضح، والرسائل النبيلة التي اشتملت عليها قيمة، فواصل بارك الله فيك.

    ردحذف

تعليق على مقالة الددو.

  تعليق على مقالة الددو.  وتنبيه لما وقع فيه من محاذير.  ________________ بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد:  فقد قال...