قصة الرحيل
يحكى أنه كان في زمن من الأزمان ..
وبلدٍ من البلدان كان يعيش قوم في أمن وإيمان.
عاشوا ردحًا من الزمن في رغدٍ من العيش مطمئنين، لم يخطر ببال أحدهم أن يأتي يوم فيقال له: أخرج من دارك، وارحل عن بلدك.
حتى كانت سنة من السنين، فحدث مالم يكن في الحسبان.!
وذلك أن والي البلدة أمرهم بالجلاء، ومغادرة دورهم ومحلاتهم إلى حيث شاءوا من أرض الله.!
وهو في ذلك غير مكترثٍ بما يلحقهم من عناءٍ وتفرق.
غير أنه أمهلهم مدة يسيرة ليتمكنوا من ترتيب أمور الرحيل، قبل أن يُخرجوا ويطردوا من ديارهم.
ولما تيقنوا أنّ هذا الأمر جِدٌ، ولا رجعة فيه، لم يملكوا إزاء ذلك إلا أن يسأل بعضهم بعضًا على وجه الاستغراب والاستنكار:
لأي سبب نرحل من دورنا؟
لماذا نخَص بالجلاء، دون غيرنا؟
ولقد كان موقف الغالبية منهم الامتعاض، والاعتراض على ذلك القرار الجائر، واعتباره مصادرةً لحقوقهم بغير سبب، وظلمًا ظاهرًا لا مبرر له.
وهم في الحقيقة يعلمون أن الرفض و الموافقة لا يغير من الواقع شيئًا، وأن قرار التهجير حتم لابد منه.
فلذلك قال عقلاؤهم: الكلام في أمر مفُروغٍ منه لن يجدي نفعاً، وليس بالإمكان الاعتراض على أمر الوالي ، ولكن الواجب علينا تدبير أمورنا، والحذر من التسويف، كيلا يحصل بالتأخر عن الرحيل مالا تحمد عقباه..
وفي حقيقة الأمر لقد نزل بهم من البلاء والغم والضيق ما لا يحتمل، وساءهم جميعاُ ذلك الأمر.
حتى أنهم ليمسون ويصبحون وحديث مجالسهم وشغلهم الشاغل ما نزل بهم من تلك المصيبة.
كلٌ يسأل جاره وقريبه، ما فعلت؟
كيف صنعت، متى سترحل؟
وإلى أين؟
هل أجد عندك معونة على أمري؟ فيجيبه صاحبه: ألسنا في المصيبة سواء؟!
ليت أني أجد قدرة على مساعدتك..
أصبح الجميع لا يطيقون احتمالاً لتلك النازلة التي قصمت ظهورهم..!
حدِّث كما تشاء عن مشاعرهم التي تلفعت أثواب الحزن، وعلت الكآبة وجوه الصغار قبل الكبار، كيف يطيقون مفارقة جيران أوفياء، ودورٍ عاشوا فيها زمنًا طويلاً..ولهم فيها أخبار وأسمار، وذكريات جميلة هكذا وبلا سبب يهجّرون منها!
ومع ذلك لم يكن لهم بُدٌ من الرحيل..
هل سمعتم بالمثل القائل: ذهبوا أيادي سبأ..
كيف رحلوا من أرضهم وتفرقوا في البلاد..
ما أشبه حال هؤلاء بأولئك..!
وفيما يلي بعض المشاهد والصور لتلك المعاناة التي حلّت بهم.
فذات يوم وقف شيخ كبير أيضًا بباب داره بعد أن فارق أهله وأحبابه، رحلوا وبقي هو في غمّه، يعض لفرط حسرته كفيه، ويقلّب في منزله ناظريه، وينادي يا…يا..!
فيجيبه صداه، وزفير صدره المكلوم، وعينيه بالدموع الغزار.. فيقول: ويلي، و ويحي! ما الذي يجري؟
تركوني وحيدًا عاجزًا ومضوا..
إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لاحول لي ولا قوة إلا بك.
عياناً ترى قهر الرجال في قسمات وجهه وأمثاله كثير، وإنّ ذلك لمن أشد المواقف ألمًا أن ترى رجلاً يبكي ولا يمكنك أن تعينه بأدنى شيءٍ، أو تواسيه ولو بكلمة في أقل الأحوال..!
ماذا ستقدم له، أو من الذي سيخفف عنه كربَه وغمَّه، وقد أصبح هو وجيرانه في البلاء والهم مشتركون؟!
ومما زاد الأمر سوءًا أن أكثر هؤلاء القوم لم يكن لهم قدرة على الانتقال لضيق العيش، وكثرة العيال، وقلة ذات اليد..، حتى أنك لترى القوم يتشاورون فيما نزل بهم من هذا الأمر، كيف يصنعون؟
ولا يملك أحدهم للآخر إلا أن يصبّره ويعزّيه - وهذا أقصى ما يمكن فعله- فيتلو بعض الآيات التي ترغب في الصبر، كقول الله تعالى: { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين • الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون• أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} .
تنوعت صور المأساة، ففي كل دارٍ ثكلى، وفي كل طريق شيخ مهدود القوى، وأمام كلِ بابٍ صبيٌ يجهش بالبكاء، قد حمل نصيبه من الهم والبلاء، كالكبار سواءً بسواء.
ولو رأيت ذلك الفتى والبؤس ظاهر في وجهه، كأنما يحمل هموم الدنيا على عاتقيه، ولكن من لطف الله به أن قيّض الله له جارًا عاقلاً حكيمًا هوّن عليه بعض أمره، وأخذ يهدئ من روعه فيقول له: قل يا أخي: "حسبنا ونعم الوكيل"، قلها بيقينٍ وصِدقِ تضرعٍ، فسيكفيك الله أمرك، ويفرّج همّك… لا تقل: كيف، ولكن كن موقنًا بقدرة الله ولطفه.
فرد الفتى بشيءٍ من الامتعاض قائلاً: سأفعل، ولكن..
فقال له جاره: لكن ماذا؟ كأنك لا تعلم معنى قول:"حسبنا الله ونعِم الوكيل" يا أخي لقد جعلت الله وكيلاً لك، وفوضت إليه أمرك، أفلا يكفيك ذلك؟!
إني لأظنك لو كانت لك قضية في مرافعة فاتخذت محامياً أميناً ماهرًا وخبيرًا، لوثقت به..! تثق بإنسان ضعيف مثلك، وتطمئن إليه، ولا تثق بالله القوي العزيز الوكيل الحسيب؟!
عندئذٍ قال الفتى:
بلى، يكفيني:"حسبنا الله ونعم الوكيل".
واعلم يابني أن العباد كلهم تحت قضاء الله وقدره، يقضي فيهم بحكمته ومشيئته ، فيبتليهم بالسراء والضراء والخير والشر..
وإنّ من أشدهم بلاءً: المريض على فراش المرض، والأسير والمحبوس في سجنه، والمطرود من بلده كحالنا، ولكلٍ منهم نصيبه من البلاء، فالصابر منهم موعود بالفوز بكريم الأجر، وحسن العاقبة، والخاسر من جَزِع وسخط.
عند ذلك أدرك الفتى ما ينبغي عليه فعله إزاء هذه المحنة العصيبة التي ألمت بهم.
وعَودًا إلى معاناة هؤلاء القوم وما آلت إليه حالهم، فإنهم لما جدّ بهم الجِد أخذ بعضهم يعد العدة للانتقال، ومنهم من يسوّف ويرجو أن يغير الوالي رأيه، فيتركهم أو يعطيهم مهلة أطول.. ونحو ذلك٥ وظل يتعلل بتلك الأوهام فلم يقض من جهازه شيئًا،حتى لقيه أحد جيرانه فاستخبره عن حاله، هل رتّب أموره للرحيل، فكان جوابه يدل على التواني والإهمال، فما كان من صاحبه إلا أن عاتبه على تفريطه في أمر محقق، وإهماله شأنه..
عند ذلك أدرك الرجل خطورة الأمر، وضرورة تلافي ذلك التأخير فأخذ يعد جهازه ورحله….
فلما تقارب الموعد ورأي الناس الجد ، ضاقت بهم السبل، وأعيتهم الحيل، ففريق ارتحل، وفريق أعياه أمره وانشغل فكره، فلا تسأل عن حاله، فكل يومٍ هو في كربٍ شديدٍ، بل في كل لحظة..
هذا حالهم في الانشغال بالرحيل.
فكّر أحدهم بعد أن رأى ما حل بقومه من الهم والغم جرّاء تلك النازلة المفجعة، وقال:
ياقوم هذا انشغالنا بالجلاء والرحيل من بلدٍ لبلد، ومن محلةٍ لأخرى..لقينا فيه ما تعلمون من الشدة، وبذلنا له كل ما بوسعنا من جهد..
أين نحن من الاهتمام بالرحيل إلى الدار الآخرة؟
دار من جهّز لها الزاد اليوم، كان من السعداء الخالدين في النعيم المقيم، ومن أهمل زاده صار من الأشقياء خالدًا في الجحيم..
فالذين سمعوا مقالته أيقنوا - إلا من رحم الله - أنهم قد أهملوا وقصروا في أوجب الأمور، وغفلوا عن التزود للآخرة..
فكأنهم تنبهوا بما لاقوه من الهم، والانشغال بالارتحال عن دُور في الدنيا، ومن أرض إلى أرض، وحلّ بهم ما شغلهم عن كل شيء، حتى أضغاث أحلامهم أشبهت الحقائق.
عند ذلك تفكروا في حالهم فعلموا أن في هذه المصيبة التي أحاطت بهم، أن فيها لهم موعظة وذكرى، أيقظتهم من الغفلة عن الله والدار الآخرة.. فخفف ذلك عنهم بعض ما كانوا فيه من هم الرحيل من دورهم هذه إلى بلاد أخرى.. والأمر مع كونه عليهم شاق وعسير ولكنه سينتهي عما قريب، وسيذهب تعبهم ويُنسى.. !
وفريق منهم أخذته الدهشة بما جرى، وانشغل بأمر الانتقال غاية الانشغال.. لا تراه إلا شارد الذهن، غارق الفكر في ما حل به من نكبة هذا الجلاء..
ما أكثر ما يُرى أحدهم يمشي في طريق لا يريده، فإذا تنبه، واصل مسيره معانداً نفسه، وكأنما يعاقبها على جرم جنته…!
ولو قيل له : يا هذا لِمّ تحمّل نفسك من التفكير والهم فوق طاقتها؟
لأجاب: دعني وشأني، فإنك لم تصب بما أصبت به، فكما قيل: ويل للشجي من الخلي.
وتراه يتمتم ويقول متذمراً : كيف أخرج من داري بلا جناية، وأُطرد من بيتي، بلا سبب.؟!
يا لائمي على ما ترى مني أقِلَ من اللوم عليّ أو أكثر فكله عندي سيان.
ثم أطلق زفرة مكلوم لو أصاب حرها بستاناً من الزهور والورود لذبلت وجفت في الحال، فقال:
رُبّ دهرٍ مرّ صفواً وهناء
جمع الشمل فكنا سعداء
مرت الأيام ثم عشنا زمناً
صرنا فيه بعد عِزٍ غرباء.
فيقال لهذا وأمثاله:
ويحك أبق على نفسك بعض همك، وتذكر حال الذين أصيبوا بمصائب مثل ما أصبت به وأشد من ضحايا الحروب والأوبئة والزلازل والبراكين ا
وفي هذا المعنى وقف شاب يسأل أباه: لِمَ نرحل من بيوتنا بلا جُرمٍ جنيناه، وبغير ذنبٍ أتيناه؟
فأجابه أبوه بقوله: يا بني هذا أمر قدره الله علينا، ولا خيرة لنا أمام قدر الله إلا الصبر، وإننا لا ندري لعل في ذلك خيرًا لنا..
فكل مايقدره الله خير..ولعل من الخير في ذلك مع ثواب الصبر والرضا بالمقدور.. لعل فيه أمرًا فوق ذلك وهو مانرجوه..
فقال الولد: وأي شيء ترجوه يا أبتي فوق ذلك.؟
فأجابه قائلاً: عسى الله يا بني أن يكتب لنا بعض ثواب الهجرة، فإننا أُخرَجنا من ديارنا بغير حقٍ كما أُخْرِج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر هو والصحابة من مكة، وإنّ مما يستأنس به يابني في مثل هذا الحال قول ربنا تعالى: {ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ}.
وفي جانب آخر من الصورة، يقول أحدهم وقد وقف على المنازل التي فارقها أهلها:
مالي لا أرى إلا بيتاً خِربًا ينعق البوم في زواياه.. وآخر خاويًا يكاد يسقط على ساكنيه.. تصبح الدار كئيبة وتمسي موحشة، أظلمت النواحي والطرقات..!
والمساجد هي الأخرى خالية من عمّارها، تشكو فقْدَ المصلين، المسبحين الراكعين الساجدين، عفت منهم أماكنهم، حتى مصاحفهم علاها الغبار ، وهُجرت من التلاوة..!
ولو نطقت الحجارة لقالت جدران المساجد ومناراتها: أين الذين كانوا يترددون خمس مرات كل يوم، أين أحبابي وأهلي، أين المتسابقون إلى الصف الأول ؟
أين هم، أين ذهبوا؟
فلا مجيب !
والأمر والله أشق على نفوس القوم من أن يوصف، فقد هدّمت المساجد والدُور، وتفرقت الأسر شذر مذر، وتباعد القوم بعد قُرب وجوار!
يقول أحدهم، وقد رأي اثنان من أبنائه يغادران المنزل الذي ولِدا فيه، وشبّا وترعرعا، حتى تزوج كل منهما، ثم أخذ كل منهما متاعه وأهله إلى جهة بعيدة عن أهله وإخوته، يقول: بالكاد - والله - أحبس دموعي لئلا يتأثر بذلك الأولاد والأهل، فأستثير شجونهم.، فوق ما هم فيه من الغم والحزن.!
فياله من موقفٍ يستجيش العواطف فعلاً، وتحتبس له الأنفاس.
أما الأم المكلومة فقد نظرت هي الأخرى بحسرة تكاد تفت فؤادها، ثم صرفت وجهها ودموعها تهطل من عينيها، وهي تغالبها فتكفها بخمارها تارة، وبكفها أخرى! وتقول متمثلة قول الشاعر:
ولم أنس موقفنا للوداع
وقد حان ممن أحب الرحيل
ولم تبق لي دمعة في الشؤون
إلا غدت فوق خدي تسيل..
وفي جانب آخر..
مرّ أحدهم بالمنازل الخالية، فنادى فلانًا، وفلانًا من جيرانه، وممن يعرفهم، فلما لم يجبه أحد، تمثّل قول الله جل وعلا:{هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم رِكزًا} .
واستحضر في ذلك قول الشاعر:
قلت يومًا لدار قومٍ تفانوا
أين سكانك العزاز علينا
فأجابت هنا أقاموا قليلاً
ثم ساروا ولست أعلم أينا.
هذه صورة من صور المعاناة التي عاشها الذين تأخروا في الخروج من دورهم ومنازلهم.
وذاقها قبلهم من سبقهم بالرحيل.
حتى إن قائلهم ليقول في نفسه:
تُرى هل ما حصل لنا من هذا الجلاء بسبب ذنوب اقترفناها، وسيئات اجترحناها، فحق علينا الجلاء والخروج من الديار؟
ما أشبه حال هؤلاء بعد رحيلهم من دورهم بما أخبر الله عن بعض القرى، في قوله تعالى:{ فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ }.
فلو رأيت منازلهم كيف قوّضت وهدُمت، فسقط بعضها على بعض؟!
من رآها بعد هدمها تمثل قول الله تعالى:{ فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدهم إلا قليلاً }
أصبحت الأرض كأنما ضربها زلزال جعل عاليها سافلها، فأصبحت أثراً بعد عين.
هناك في ناحية من تلك المحال والدور التي لم يرحل أهلها بعد، عاش أهلها صراعاً عنيفًا مع ألم الفراق ومشاعر الوحشة إذ خلت كثير من الدور المجاورة لهم بعد رحيل أهلها، فازداد الأمر سوءًا، فقد أوحشت المنازل، وافتقدت أهلها، فلا أنيس ولا حسيس، والطرقات هي الأخرى خلت من سالكيها إلا نفرًا معدودين..
وقف أحدهم بباب أحد منازل جيرانه الذين رحلوا فطرقه، وكرر الطرق، فلما لم يجبه أحد، عاد أدراجه يجر خطىً مثقلة بالغم والوحشة والإحساس بالغربة يردد قول الشاعر :
يا طارق الباب رفقاً حين تطرقهُ
فإنه لم يعد في الدار أصحابُ ،
تفرقوا في دروبِ الأرض وانتثروا
كأنه لم يكن أنسٌ وأحبـــــــابُ.
لقد بلغ الحال بهم أن أحدهم إذا خرج من منزله تلفت يمنة ويسرة خوفًا من اللصٍوص الذين وجدوا في هذا الظرف بغيتهم فأضحوا يصولون ويجولون جهارًا نهارًا فينتهبون كل ما يقع تحت أيديهم..
فكم من حوادث جرت لعَجَزةٍ ونساءٍ، ومنازل ومحلات تعرضت لعبثهم ونهبهم.
فلا عجب أن ترى السائر في الطريق لحاجة تفزعه كل حركة غريبة ممن يقابله في الطريق، أو صوت يصدر من بيت قد رحل ساكنوه…
وذات يوم طلب أحد الذين تقدموا في الرحيل من أحد أبنائه أن يأخذه في زيارة لمحلتهم القديمة قال لعلي أجد بعض الجيران ممن لم يرحل بعد فأجدد بهم العهد، لا أدري هل نلتقي بعدها ذلك أم لا..
فيّسر الله مقابلة أحد جيرانه، ولما تقابلا وسلم كل منهما على الآخر، واستخبر كلٌ منهما جاره عن أهله وأحوالهم..لم يطل اللقاء فقد غلبهما الشعور بالحزن العميق، فها هما يفترقان الآن بعد أن مكثا في جوار ومودة نحواً من أربعين سنة..
تعانقا مرة ثانية عناق وداعٍ حارٍ أسبل كلٌ منهما دموعه، وهو يقول لصاحبه اعف عني فلعلي قد أخطأت في حقك يوماً من الأيام..
ثم افترقا وودع كلٌ منهما صاحبه، وكان موقفًا عصيباً قد لا ينساه أحد منهما مابقي حيًا..
ولقد كانت الليالي المظلمة الموحشة والمواقف العصيبة من نصيب المتأخرين عن الرحيل الاختياري حتى ضاق الوقت وأزف وقت الرحيل القسري..
عاشت أسَرٌ معدودة تلك المعاناة القاسية..
يصف أحد هؤلاء الذين قصّرت بهم حبال الرحيل وضاق بهم الخناق فيقول:
لم أكن أريد التأخر في الرحيل، ولكن حال دون ذلك أسباب لا أستطيع البوح بها، غير أني سأوجز لكم بعضًا من صور تلك المعاناة التي عشتها أنا وأسرتي..وأمثالنا ممن تأخر في بعض نواحي الحي.
يقول:
أبرزها ماكان ينتابنا جميعًا من القلق الذي أناخ ركابه في الصدور والوحشة التي خيّمت على الدور..
حتى أصبحت كل أسرة تجعل الحراسة بين أفرادها بالتناوب كيلا يتسلل اللصوص في لحظة غفلة فينتهبون ما تصل إليه أيديهم من الأدوات والمتاع ..
أما الشعور بالخوف والغربة فأكبر مايكون عند الخروج من البيت لأداء صلاة الفجر خصوصٌا لمن كان المسجد بعيًدا عن داره، وقد أصبحت المساجد المهيأة للصلاة قليلة، وأكثرها معطل بسبب رحيل جيرانها، والطرقات مظلمة والبيوت خاوية..
تنظر مد البصر فلا تكاد ترى إلا بصيصًا من نور خافتٍ من بعيد. وقد تقطع المسافة بين بيتك والمسجد في الظلام، كأنما تمشي ليلاً في المقبرة!
صمت رهيب..، ومنظر مرعب.. وشعور لا يوصف.
عن التفرق بعد الاجتماع والرحيل عن الديار، يقول الشاعر،
يا دار أين ترحل السكان
وغدت بهم من بعدنا الأضعان.
بالأمس كان بك الظباء أوانسًا
واليوم في عرصاتك الغربان..
وعن تفرق الأحباب فلا تسل عن الحسرات، وحزن الأمهات، وأين حطوا الرحال؟
وكيف وصلوا إلى تلك المحالّ..؟
لعله قد صدق فيهم المثل القائل: ذهبوا أيادي سبأ.
قد - والله- عظُم الأمر،
وهيِض الكسر،
وحار الفكر،
وكلّت اليد،
وانثلم القلم،
وجفّ المداد.
وهطلت الدموع كالوابل الصيّب.!
واستعر في الحشا لهيب الفراق، واضطرمت نار الحسرة بين اللهاة والفؤاد.
فماذا عساني أقول وقد انطوت بقصة الرحيل قصة عُمرٍ نافت على أربعين حولاً، عاشها قومٌ بحلوها ومرها، وكان مرُها أحلى على القلب من الشهد!
لعلك تعجب من ذلك وتقول:
لقد ذهبت في المبالغة شأواً بعيدًا..
أقول نعم، فإنه.،
لا يعرف الشوق إلا من يكابده..
ولا تحرق النار إلا رجل واطيها.
ذكريات الدار تهز الكيان هزاً لو كان زجاجاً لتحطم..
ذكريات الجوار الطيّب المطيّب الجميل المؤنس.
ذكريات الأفراح والأتراح، ذكريات الصفاء والهناء،
ذكريات الآلام والآمال…
قل لي بربك: كيف تُنسى.!؟
وبعد:
قال الكاتب عفا الله عنه:
لو قلت أني كتبت ما كتبت بمداد قلمي ممزوجاً بدمي!
فمن مصدّقٍ لي وغير مصدقي، وهو معذور إذ لم يعش تلك المعاناة..
ويا تُرى ماحواه هذا المسطور من الحقيقة أم من نسج الخيال؟! ٩١١٤٣
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق