تعيش الأمة المسلمة اليوم مرحلة عصيبة تواجهها الأخطار فيها من كل حدب وصوب, من تكالبت الأعداء, وطعنات الأدعياء, وطائفة من المسلمين في غفلة عن ذلك مشغولون بالشبهات, وآخرون أضحوا صرعى الشهوات,وكثير منهم في غفلة عما يدبره العدو لهم من المكائد, بل بلغ الأمر ببعضهم إلى الرضا بما هم فيه فمضوا في لهو وعزفٍ رغم جراحاتهم..! ولكن كيف يغني المطعون, ومن الذي يعزف على الجراح؟!
فالمعازف تصدح في نواديهم وقنواتهم واحتفالاتهم كأنما أيامهم أيام أعراس, وكأن لم يكن لهم حق مغتصب أو وطن سليب..! نسوا نكبتهم بفلسطين, وأغضوا عن العراق طرفاً حتى نهبت و بيعت للعدو, وهاهو الجرح يتجدد في سوريا, والعازفون والمغنون لا يفترون, والغافلون لا يستفيقون.
والأسباب التي أدت بالمسلمين إلى هذه الحال كثيرة لا مجال لذكرها الآن, ولكن العجب كيف تبلدت المشاعر, وصُرفت الهمم عن استصلاح الأحوال , وغيّبت الحقائق عن الأمة, وأُلهيت عن مُصابها, ثم أُخِذ بزمامها إلى تفاهات الأمور- إلا ما شاء الله - وخُدعت عن الجد باللعب, فمن احتفال ماجنِ إلى دوري كروي, أو لهو عابث مقصود, أو تبرج وسفور.. حتى لو أراد أحد استقصاء دسائس العدو؛ لعجز عن الإحاطة بها لكثرتها وتتابعها. ولكن حسبنا هنا الإشارة إلى أحد هذه المكائد, ألا وهو الغناء؛ والغرض التنبيه لخطره والتحذير من آثاره, ولعل الله أن ينفع به من أراد.
يقول الله تعالى مبيناً خطر الغناء ومتوعداً عليه بالعذاب المهين:{ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }. قال ابن القيم رحمه الله:"فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن... فإنك لا تجد أحداً عنِيَ بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علماً وعملاً, وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك وثقل عليه سماع القرآن".(1)
وقد نقل الطبري وغيره عن عبـد الله بن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أنهم فسروا لهو الحديث في هذه الآية بأنه الغناء والاستمـاع له".(2) وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغناء مع جملة من المحرمات فقال:" ليكوننَّ من أُمتي أقوامٌ يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلنَّ أقوامٌ إلى جنب عَلَمٍ، يروح عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم- أي:يدك الجبل عليهم- ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".(3)
وقد أجمع العلماء على تحريم الغناء والمعازف,فقد سئل ابن عباس عن الغنـاء, فقال رضي الله عنهما:"أرأيت الحـق والبـاطل إذا جـاء يوم القيامة، فأين يكون الغنـاء ؟ فقال الرجـل: يكون مع الباطـل، فقال: اذهب, فقـد أفتيت نفسـك".(4) ولما سئل مالك رحمه الله عنه قال:" إنما يفعله عندنا الفساق".(5)
ومذهب أبي حنيفة في الغناء أشد المذاهب, فقد صرّح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، صرحوا بأنه معصية توجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر"(6))
وقال الشافعي:"إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال" (7). وصرّح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق(8) .
وأما مذهب الإمام أحمد فقد سأله ابنه عبد الله عن الغناء؟ فقال:"الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني، ثم ذكر قول مالك:إنما يفعله عندنا الفساق"(9) . ونصَّ رحمه الله "على كسر آلات اللهو كالّطنبور وغيره، إذا رآها مكشوفة، وأمكن كسرها"(10) .
وبمناسبة ذلك فقد حدثت للحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله حادثة طريفة:"فقد جعلت الملاهي في طريقه، ذات يوم، فجاء الحافظ فكسر شيئاً كثيراً منها, ثم صعد يقرأ الحديث، فجاء رسول القاضي، يأمره بالمشي إليه ليناظره في الدف والشباّبه.فقال: ذلك عندي حرام، ولا أمشي إليه، ثم قرأ الحديث، فعاد الرسول وقال: لابد من المشي إليه، أنت قد بطّلت هذه الأشياء على السلطان، فقال الحافظ: ضرب الله رقبته ورقبة السلطان، فمضى الرسول". (11)
وللغناء والمعـازف مفاسد وآثار وخيمة منها:
ـ أنه موجب لغضب الله وسبب للعذاب المهين. فقد جاء من الوعيد على استماع الغناء ما فيه منتهى لذوي العقول ومزدجر كما ذكر الله تعالى في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. وفيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:" ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف، والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير(12). وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف، ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا المعازف"(13) .
ـ والغناء من وسائل الإضلال عن سبيل الله، ومن أعظم ما يلهي عن ذكر الله تعالى، ويُصِد عن الحق, وهومـن الأسباب المفضية بصاحبها إلى اتخاذ آيـات الله هـزواً كما أخبر الله تعالى عن ذلك فقال:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
فمن تأمل أحوال المغنيين أو العازفين بالآلات الموسيقية؛ وجدهم كما وصفهم الله, لاهون في غفلتهم، غارقون في شهواتهم، مضلون لغيرهم:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.
ـ ومن مفاسد المعازف والغناء:أن فيها ضياعاً للأعمار في معصية الله، وطاعة الشيطان بإنفاق الساعات الطوال في الغناء أو العزف والاستـماع له والانشغال بذلك عن معالي الأمور, فيا لله كم من الأوقات الثمينة أُهدرت في غير طائل، والله عز وجل يقول:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
قال أيضاً الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:"قد علم بالأدلة المتكاثرة أن سماع الأغاني، والعكوف عليها، لاسيما اللهو، كالعود والموسيقى ونحوها من أعظم مكائد الشيطان، ومصائده التي اصطاد بها قلوب الجاهلين، وصدهم بها عن سماع القرآن الكريم، وحبب إليهم العكوف على الفسوق والعصيان. وتحريم الغناء المشتمل على شيء من آلات الملاهي، لما فيه من إمراض وإفساد الأخلاق، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة"(14) و قال أيضاً رحمه الله: "من زعم أن الله أباح الأغاني، وآلات الملاهي، فقد كذب، وأتى منكراً عظيماً نسأل الله العافية من طاعة الهوى والشيطان، وأعظم من ذلك وأقبح، وأشد جريـمة، من قال: أنـها مستحبة، ولا شك أن هذا من الجهل بالله، والجهل بدينـه، بل من الجرأة على الله، والكذب على شريعتـه" (15).
ـ ومن شؤم الغناء وآثاره: أنه ينبت النفاق في القلب، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل"(16) .
قال ابن القيم رحمه الله:"اعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه: أنه يلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن الغناء والقرآن لا يجتمعان في القلب أبداً لما بينهما من التضاد. فإن القرآن ينهي عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهي عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي..- إلى أن قال-: كتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن. فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغاني؛ ينبت النفـاق في القلب, كما ينبت العشب على الماء فالغنـاء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق".(17)
ومن زعم أن المعازف لا خطر لها على مستمعها ولا أثر لها عليه فليتأمل هذه الحادثة: "بعث عضد الدولة القاضي أبا بكر الباقلاني في رسالة إلى ملك الروم، فأمر الملك بإحضار آلة الطرب المسماة بالأرغن، ليستفز عقله بها، فلما سمعها القاضي خاف على نفسه أن يظهر منه حركة ناقصة فجعل لا يألو جهداً أن جرح رجله حتى خرج الدم الكثير، فاشتغل بالألم عـن الطرب، ولم يظهر عليه شيء من النقص والخفة، فعجب الملك من ذلك، ثم أن الملك استكشف الأمر فإذا هو قد جرح نفسه بما اشغله عن الطرب، فتحقق الملك وفور همته، وعلو عزيمته، فإن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى".(18)
ولماذا عمد القاضي إلى جرح نفسه؟ أليس لكي ينشغل فكره بالألم عن استماع صوت آلة العزف خشية على قلبه من أثر ذلك الصوت, مع ما هو عليه من العلم والفضل! وكثير ممن يستمع إلى المعازف والغناء لا يقرون بأثر ذلك عليهم مغالطة منهم ورضاً بلذة الاستماع, ولا يبالون بمعصية الله والإثم الذي اكتسبوه, وما علموا أن الغناء يذهب العقل, وينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل.
الهوامش:
1- إغاثة اللهفان 1/426, ط المجمع.
2- ينظر تفسير الطبري21/62,61, وسنن البيهقي 10/377, وتفسير ابن كثير 6/334,333 ط:الشعب.
3- أخرجه البخاري: (5590) 4/13.
4- إغاثة اللهفان1/430.
5- ابن أبي الدنيا (46) ص: 48,سنن البيهقي 10/377 دار الكتب العلمية, إغاثة اللهفان1/404..
6- سنن البيهقي 10/377,إغاثة اللهفان1/405.
7- إغاثة اللهفان1/4065.
8- إغاثة اللهفان1/406.
9- مسائل الإمام احمد رواية ابنه عبد الله3/1004(449) مكتبة الدار بالمدينة.
10- إغاثة اللهفان1/409.
11- سير أعلام النبلاء للذهبي 21/456
12- سنن ابن ماجه (4020) 2/1333, والمسند 5/342. وصححه الألباني في صحيح السنن.
13- ابن ابي الدنيا في م الملاهي(7), وهو في الصحيحة برقم( 2203).
14- فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز 3/429.
15- فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز 3/425.
16- سنن البيهقي 10/377, وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي(41) ص:45.
17- إغاثة اللهفان 1/440,439.
18- البداية والنهاية لابن كثير11/374. دار الكتب العلمية
ا |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق