الثلاثاء، 8 أغسطس 2023

من صيانة الله وحفظه لوحيه

 

 تكفّل الله بحفظ وحيه من التحريف والتبديل ووساوس الشياطين فقال سبحانه : { إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ } وهذا أمر ظاهر بحمد الله لا شك فيه. 

غير أنّ هذه الوقفة أريد منها توضيح ما أورده بعض أصحاب السير والمفسرين عند قول الله جل وعز:{وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولࣲ وَلَا نَبِیٍّ إِلَّاۤ إِذَا تَمَنَّىٰۤ أَلۡقَى ٱلشَّیۡطَـٰنُ فِیۤ أُمۡنِیَّتِهِۦ فَیَنسَخُ ٱللَّهُ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ ثُمَّ یُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ }.

قال ابن قتيبة رحمه الله: " يريد إذا تلا النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الشيطان في تلاوته، والله يعزيه عما ألقاه الشيطان على لسانه حين قرأ في الصلاة( تلك الغرانيق العلى  وإن شفاعتهن ترتجى)  غير أنه لا يقدر أن يزيد فيه أو ينقص منه، أما تسمعه يقول"{فَیَنسَخُ ٱللَّهُ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ ثُمَّ یُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِ} 

 أي: يبطل ما ألقاه الشيطان. 

 ذكر ذلك ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث صفحة:  ١٨١.


 أقول وبالله التوفيق: 

 ليت أنّ الإمام ابن قتيبة رحمه الله استبدل جملة "حين قرأ في الصلاة تلك الغرانيق العلا.. "ليته استعاض عنها  بكلام آخر، لئلا يكون في ذلك شبهة لأصحاب العقول المريضة المفتونة، أو مقالاً لمتقوّل على رسول الله

  ولو أنه قال:  

حين سمع الكفار ما ألقاه الشيطان من قوله: تلك الغرانيق العلا، لكان ذلك أسلم. 

فلم ينطق النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات ولم يتفوّه بها، وإنما اعترض بها الشيطان في تلاوته، وألقاها أثناء ذلك على أسماع الكفار. 

 فلا تصح نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قال تلك المقالة. 

 فنسبة ذلك إليه صلى الله عليه وسلم بغير حجة في غاية الشناعة، ويجب دفع هذه الشبهة بمحكم القرآن وصحيح السنة، وألا تترك لقائل دعوى باطلة تمس عصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه جل وعز. 

 وألا تترك تلك الشبهة مثارًا للجدل دون إبطال.

 وكيلا يترك لمبطلٍ حُجة للنيل من وحي الله عز وجل، أو الافتراء على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى في حقه: {  وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ • إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ }. 

 غير أن  ابن قتيبة رحمه الله دفع شبهة هؤلاء بقوة الدليل من كلام الله تعالى فيما نقله من قول الله عز وجل: {  لِّیَجۡعَلَ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡقَاسِیَةِ قُلُوبُهُمۡۗ} . 

 فهذا هو الحق  أن تلك الكلمات من إلقاء الشيطان وليست من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تفوّه بها، حاشاه عليه الصلاة والسلام، كيف وقد قال الله تعالى : {وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَیۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِیلِ • لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡیَمِینِ • ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِینَ}

ثم إنه ليس الشيطاني على النبي صلى الله عليه وسلم سبيل، وقد قال جل وعلا: { لَّا یَأۡتِیهِ ٱلۡبَـٰطِلُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِیلࣱ مِّنۡ حَكِیمٍ حَمِیدࣲ }.

وأخبر جل وعلا أنه  قد تكفّل بحفظ وحيه وكتابه فقال: { إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ }.

كيف؟ و تلك الرواية لم تثبت من طريق صحيح؟

هذا. 

 و قد وجدت ابن كثير رحمه الله قد رد ذلك في تفسيره فقال: 

"قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى  أرض الحبش، ظنًا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا .

 ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم . 

وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، والله أعلم.

وقد ساقها البغوى في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالا:  

كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه؟

 ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها: 

أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ، وليس كذلك في نفس الأمر، إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن ، والله أعلم.

[تفسير القرآن. العظيم: ٨٦،٨٣/١٠].

وقال القاضي عياض رحمه الله في الشفاء: "قد قامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه، صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه صلى الله عليه وسلم معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدًا ولا عمداً ولاسهوًا ولا غلطًا.."          ( ص:١٠٥/٢)

وقال عن حكاية الغرانيق: " ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحدٌ منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم ضعيفة واهية". (١٠٨/٢). 

انتهى الغرض من ذلك والأمر بحمد الله ظاهر فلا يرتاب مؤمن في حفظ الله لوحيه من تسلط شياطين الأنس أو الجن، حتى أن الجن علموا ذلك وتيقنوه كما حكى الله ذلك عنهم في قوله : {  وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ فَوَجَدۡنَـٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسࣰا شَدِیدࣰا وَشُهُبࣰا • وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن یَسۡتَمِعِ ٱلۡـَٔانَ یَجِدۡ لَهُۥ شِهَابࣰا رَّصَدࣰا  }.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من آداب سورة الحجرات

    من آداب سورة الحجرات قال الله عزوجل; ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّه...