قراءة المأموم للفاتحة في الصلاة
بسم
الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فروي عن جماعة من الصحابة أنهم أوجبوا القراءة خلف الإمام, وروى
عن آخرين أنهم كانوا لا يقرأون وافترق الفقهاء فيها على ثلاثة أقاويل:
لا
بد من أن يقرأ خلف الإمام فيما جهر به وفيما لم يجهر به.
يقرأ
فيما أسر الإمام فيه بالقراءة ولا يقرأ فيما جهر به
لا
يقرأ أحد خلف الإمام جهر أو أسر.
معالم السنن
للخطابي: ج 1, ص349
الأدلة وشيء
من التوضيح والتعليق
المذهب الأول
القائل:
بالقراءة خلف الإمام
فيما جهر وفيما
لم يجهر.
"هو
آخر قولي الشافعي كما جاء في معرفة السنن والآثار للبيهقي أنه قال " لا
تجزي صلاة المرء حتى يقرأ بأم القرآن في كل ركعة إماماً كان أو مأموما كان الإمام يجهر أو يخافت فعلى المأموم أن يقرأ بأم القرآن فيما خافت الإمام أو جهر. "
قال الإمام: لا يقرأ المأموم خلف الإمام فيما يجهر الإمام فيه ويقرأ فيما يخافت فيه زاد على هذا في كتاب البويطي فقال: وأحب إلي أن يكون ذلك في سكتة الإمام.(ج3, ص90)
وحجته رحمه الله ومن ذهب مذهبه: حديث عبادة صلى بنا رسول الله بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة, فلما انصرف قال: منكم أحد يقرأ شيئاً من القرآن إذا جهرت بالقراءة؟ فقلنا: نعم يا رسول الله, فقال رسول الله "وأنا
أقول:
مالي أنازع القرآن لا يقرأ أحد منكم شيئاً من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن" أبو
داود
(824) والترمذي
(311) والدار قطني (1/320) وقال: هذا
إسناد حسن ورجاله كلهم ثقات. وانظر تهذيب أبي داود لابن القيم
1/390.
وممن يرى من الصحابة القراءة في الجهرية والسرية خلف الإمام: أبو هريرة, وعمر بن الخطاب, وعثمان بن أبي العاص, وخوات بن جبير, وأبو سعيد الخدري, وابن عمر, وابن عباس, رضي الله عنهم.
وقال بذلك سماحة الشيخ عبد العزيز في كتاب الدعوة وقال بهذا القول الشيخ محمد بن عثيمين في الشرح الممتع ج3 ص86 وأحمد
شاكر في جامع الترمذي 2/126 والنووي
في المجموع ج3 ص322 وابن
حزم في المحلي ج3 ص303
القول الثاني: وهو
القراءة فيما خافت
فيه الإمام والإنصات
فيما جهر به.
قال به
جماعة آخرون
من الصحابة: منهم علي, وابن مسعود, وعائشة ورواية عن أبي هريرة, وعبدالله بن عمر, وجابر وعبدالله بن عمرو, ورواية عن ابن عباس, ومن الفقهاء الحسن, وسعيد ابن المسيب, ومجاهد, والشعبي, والنخعي, وابن المنذر, ومالك, وأحمد والزهري, وإسحاق, وابن المبارك, وابن تيمية وابن قدامه.
وعند ابن المنذر "وقد
كان الشافعي إذ هو بالعراق يقول:
“من
كان خلف الإمام فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة فإن الله يقول: وإذا قرئ القرآن فاستعموا له وأنصتوا " فهذا
عندنا على القراءة التي يسمع خاصة, فكيف ينصت لما لا يسمع؟..) (ح3/ ص106)
ومالك
له في الموطأ باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة ." وذكر
الأخبار والآثار قال رحمه الله " الأمر
عندنا أن يقرأ الرجل وراء الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ويترك القراءة فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة.(الموطأ ج1, ص84-86)
وعن
أحمد نقل ابن قدامه في المغني عنه أنه قال" ما
سمعنا أحد من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ، وقال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر؛ ما قالوا لرجل صلى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة, ولأنها قراءة لا تجب على المسبوق، فلم تجب على غيره.." فأما
حديث عبادة فمحمول على غير ". المغني
ج
2 ص262
وبهذا
القول قال أيضاً ابن المنذر في الأوسط قال: والذي به أقول أن يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب في كل ركعة, ويقرأ في الثالثة من المغرب وفي الركعتين الأخريين في صلاة العشاء بفاتحة الكتاب في كل ركعة, فإن كان بحيث لا يسمع قراءة الإمام قرأ في الصبح وفي الركعتين الأوليين من المغرب وفي الركعتين الأوليين من العشاء الأخيرة بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة, وإن كان بحيث يسمع قراءة الإمام قرأ في الصبح وفي الركعتين الأوليين من صلاة المغرب والركعتين الأوليين من العشاء بفاتحة الكتاب في كل ركعة من سكتات الإمام إن كانت للإمام سكتات يمكنه أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب..., ولا
أرى له أن يقرأ وهو يسمع قراءة الإمام, والذي يجب علينا إذا جاءنا خبران يمكن استعمالهما جميعاً؛ أن نقول بهما ونستعملهما وذلك أن نقول: لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب, إلا صلاة أمر النبي e المأموم
إذا جهر الإمام بقراءته أن يستمع لقراءته, فيكون فاعلاً ذلك مستعملاً للحديثين جميعاً ولا يعدل عن هذا القول أحد إلا عطل أحد الحديثين. الأوسط
ج3 ص 110/111
واختار
ابن تيميه الاستماع والإنصات إذا جهر الإمام فقال: وقراءة المأموم خلف الإمام: أصول الأقوال فيها ثلاثة: طرفان ووسط :فأحد الطرفين أنه لا يقرأ بحال, والثاني: أنه يقرأ بكل حال والثالث: وهو قول أكثر السلف؛ أنه إذا سمع قراءة الإمام أنصت وإذا لم يسمع قراءته قرأ لنفسه فإن قراءته خير من سكوته والاستماع لقراءة الإمام أفضل من القراءة.
الفتاوى ج23 ص265, وما
بعدها
.... وفي الاختيارات ص53))
وفي
الفتاوى عن القراءة بالفاتحة خلف الإمام حال الجهر قال" فإن
العلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل ليس للمأموم أن يقرأ حال جهر الإمام إذا كان يسمع الفاتحة ولا غيرها وهذا قول جمهور العلماء من السلف والخلف وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم. وأحد قولي الشافعي.وقيل با يجوز الأمران, والقراءة أفضل ويرون هذا عن الأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم, وقيل بل القراءة واجبة وهو لقول الأخر للشافعي.
وقول
الجمهور هو الصحيح فإن الله سبحانه (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف: 204) قال أحمد أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري e قال: إن
رسول الله e (إنما
جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا ) الحديث
وروى هذا اللفظ من حديث أبي هريرة أيضاً. وذكر مسلم أنه ثابت (ج1/ ص304) فقد
أمر الله ورسوله بالإنصات للإمام إذا قرأ, وجعل النبي e من
جملة الائتمام به, فمن لم ينصت له لم يكن قد ائتم به" ومعلوم
أن الإمام يجهر لأجل المأمون, ولهذا يؤمن المأموم على دعائه ومتابعة الإمام مقدمه على مصلحة ما يقصر به المنفرد..., ومما
يبين هذا اتفاقهم كلهم على أنه لا يقرأ معه. فيما زاد على الفاتحة إذا جهر, فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه للإمام, وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ لم يحتج إلى قراءته, فلا يكون فيها منفعة, بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به.
الفتاوى ج22/ ص294/296))
وقال
ابن قدامه:”وجمله ذلك أن المأموم إذا كان يسمع قراءة الإمام لم تجب عليه القراءة ولا تستحب عند إمامنا والزهري والثوري ومالك وابن عينيه وابن المبارك وإسحاق وأصحاب الرأي, وهذا أحد قولي الشافعي.ونحوه عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي سلمه بن عبدالرحمن وسعيد بن جبير وجماعة من السلف”. المغني
ج2
ص259))
وقال: وقول
أبي هريرة: أقرأ بها في نفسك. من كلامه, وقد خالفه جابر وابن الزبير وغيرها ثم يحتمل أنه أراد: أقرأ بها في سكتات الإمام أو في حال إسراراه وروايته عن النبي e "إذا
قرأ الإمام فأنصتوا" أولى
وأصح وقد خالفه تسعة من أصحاب النبي
"e علي وابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو سعيد وحذيفة وعقبة بن عامر وابن عمر وابن الزبير. ثم إنه يحتمل إقراءها في سكتات الإمام أو حال إسراره.
فصل: قال
أبو داود: مثل لأحمد فإنه يعني المأموم قرأ بفاتحة الكتاب ثم سمع قراءة الإمام؟ قال: يقطع إذا سمع قراءة الإمام وينصت للقراءة, وإنما قال ذلك: إتباعا لقوله تعالى" وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا" ولقول
النبي
e "وإذا قرأ فأنصتوا..."
المغني ج2 ص263/264
القول
الثالث:
لا يقرأ أحد
خلف الإمام جهر
أو أسر.
قال
محمد بن الحسن: أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا حماد عن إبراهيم قال: ما قرأ علقمة بن قيس قط فيما يجهر فيه ولا فيما لا يجهر فيه ولا في الركعتين الأخريين أم القرآن, ولا غيرها خلف الإمام قال محمد: وبه نأخذ, لا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه.
وقال
أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد بن الهاد عن جابر قال e ورجله
خلفه يقرأ فجعل رجل من أصحاب النبي e ينهاه
عن القراءة في الصلاة فقال: اتنهاني عن القراءة خلف نبي الله e ؟ فتنازعا, حتى ذكر ذلك للنبي e, فقال
النبي
e " من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة . قال
محمد:
وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله"
الآثار
لمحمد بن الحسن16/17
ودليل
هؤلاء حديث
"من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة”.
قال
ابن القيم له علتان :أحداهما إن شعبة والثوري وابن عيينه وأبو عوانه وجماعه من الحفاظ رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد مرسلاً, والعلة الثانية: أنه لا يصح رفعه, وإنما المعروف وقفه, قال الحاكم: سمعت سلمه بن محمد يقول:سألت أبا موسى الرازي الحافظ عن الحديث المروي عن النبي e "من
كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"؟ فقال :لم يصح فيه عن النبي e شيء, وإنما
اعتمد مشايخنا فيه على الروايات عن علي وابن مسعود والصحابة, قال الحاكم: أعجبني هذا لما سمعته فإن أبا موسى احفظ من رأينا من أصحاب الرأي تحت أديم السماء, وقد رفعه جابر الجعفي وليث ابن أبي سليم, عن أبي الزبير عن جابر, تابعهما من هو أضعف منهما .
تهذيب
السنن ج1 ص393
وخلاصة ذلك:
أنّ القول
الثالث القائل بالإنصات فيما جهر به الإمام يوافق القول الثاني في الإنصات فيما جهر به الإمام.
وأما
عدم القراءة حتى في الإسرار فإنها والله أعلم غير معتبرة لضعف دليلها ومعارضها بالدليل الصحيح,
ويبقى
الكلام في المذهبين القائل بقراءة الفاتحة دون غيرها فيما يجهر به الإمام,
القائل
بالإنصات والاستماع فيما
جهر.
فأما
من يأخذ بقول الشافعي ومن ذهب معه إلى القراءة بالفاتحة بكل حال فإن لهم وجه قوة بالدليل ومن أخذ بذلك فله قدرة ببعض الصحابة والفقهاء.
ومن
أخذ بالقول بالإنصات فيما جهر الإمام, والقراءة فيما سكت فهذا القول والله أعلم؛ أقوى دليلاً لأنه جمع بين النصوص الواردة بالقراءة فاعملها في الإسرار بالإنصات والاستماع حال جهر الإمام ومن أخذ بهذا القول فله أيضاً أسوة ببعض الصحابة الوارد عنهم ذلك ومن قال به من الفقهاء.
.. وبالله التوفيق.
محمد بن علي الشيخي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق